* د. شاكر نوري
قرأنا الكثير عما بشّر به الفيلسوف والسياسي الايطالي أنطونيو غرامشي عن (المثقف العضوي)، ولكن هذا المفهوم ظل ملتبساً على المثقفين العرب. يقسّم غرامشى في كتابه «دفاتر السجن» المثقفين إلى نوعين، الأول (المثقف التقليدي) الذي ينقل المعرفة إلى الأجيال، والثاني (المثقف العضوي)، المتعدد الوظائف الذي يعمل على تغيير عقول الناس ويتخذ المواقف الجذرية من قضايا المجتمع. ولا تخلو ثقافتنا العربية قديماً من هذه الرموز، بينما تزخر الثقافة الغربية بأمثلة المثقف «العضوي»، أمثال ميشيل فوكو وجان بول سارتر وجان جينيه وبيرتراند رسل وغيرهم.
ويبقى السؤال هنا: هل ولد هذا النوع من المثقف في عالمنا العربي المعاصر؟
إن الهزات والثورات التي عرفها المجتمع العربي مؤخراً حتّمت على المثقف العربي أن يعيد إنتاج معرفة النضال ضد التعسف والظلم والاضطهاد، الذي واجهه المثقفون عبر تاريخنا القديم والحديث. فالخطر الأكبر الذي يواجهنا، نحن العرب، في الوقت الحالي، هو غياب صورة هذا المثقف، بذاته العنيدة الثائرة، بعيداً عن التملق للمؤسسات. ولا تظهر هذه الصورة إلا عند الأزمات. فقد كشفت حرب الخليج الثانية الكثير من مواقف المثقفين الانتهازية، تناسى بعضهم ما فعلته الولايات المتحدة في فيتنام، والمسوغات الكاذبة التي ساقتها لتدمير بلد ودولة باحتلالها غير المبرّر أصلاً، هذا إذا كان الاحتلال مبررّاً في كل الأزمان.
لا شك أن المثقف شخص يرهن وجوده كله للإحساس النقدي الذي ترفضه السلطة على الدوام. فما يحصل في تونس ومصر واليمن وليبيا ثورة بكل معنى الكلمة، تتبنى حركات خطاب الأحزاب وحتى خطاب المثقفين، وهي انطلقت من الشارع ومن الشباب. التطابقات تحدث في جميع دكتاتوريات العالم، ويصحو هؤلاء الطغاة في اللحظة الأخيرة، حيث يرفون ثوبهم البالي برقع هي الأخرى بالية، ولكن حينها لا تنفع عمليات الإصلاح والترميم، لأن البيت أصبح متهالكاً ولم يعد يصلح معه إلا هدمه وبناؤه من جديد.
هكذا تبدو المنطقة العربية في غليان ما بعده غليان، فهي تقعد على نار مختبئة، بين طيات الوعي، والمثقف هو رأس هذا الوعي. ولكن فعله ليس بالضرورة واضحاً. وربما لم يصنع المثقف ثورة تونس أو ثورة مصر أو ثورة اليمن وليبيا ولكن بذرة الثورة موجودة في أعماقه.
فلماذا نرمي كل احباطات الأمة على كتفي المثقف؟
طالما سعت أنظمة الحكم العربية إلى فصل المثقف عن قضايا شعبه، من خلال ضغوطات متنوعة وشاملة ولم تعلمه في مدارسها ومعاهدها وكتاتيبها وجامعاتها على الحس النقدي، لأنها تخشى هذا الحس. وواصلت عملية تفكيك فكر المثقف وعزله عن محيطه العربي بشتى أنواع الضغوطات التي تجيد صنعها في كواليسها المظلمة.
لقد تشرب ذهن المثقف بالايدولوجيا التي جاءت إليه من كل مكان، من مصادر محلية وأجنبية، ولكن منهم من رفضها ومنهم من اعتنقها. كانت علاقة المثقف بالتحولات الاجتماعية نواة تفكيره منذ الأزل. ولكن علاقته بالثورة كانت معقدة على مرّ التاريخ. كانت السلطة دوماً تحاول تهميش المثقف لأنه الأكثر وعياً والأكثر انتقاداً لها. فالمثقف الحقيقي لا يمكن أن يكون أداة للسلطة أبداً، حتى لو كانت ثورته لأن التطبيقات يشوبها الكثير من الاختراقات والتجاوزات. وإلا كيف يمكننا أن نفسر انتحار الشاعر مايكوفسكي الذي تبنى ثورة أكتوبر السوفييتية في عز مجدها؟
فلطالما حاولت غالبية أنظمة الحكم في عالمنا العربي أن تخبرنا بأنها منزّلة من السماء، وانه لا يحق لأحد التمرّد عليها، بل ويجب الانصياع إليها، انطلاقا من فكرة الأب الذي يفرض سيطرته على الابن. فردية المثقف ليست سيئة ما دامت تنطلق من المعنى الوجودي وليس المعنى الأناني.