شمس سيدنا قاسم ..!)

(رسالة الى سيدنا قاسم .. !)
بعد التحية وجزيل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
وأنا أكتب هذه الرسالة إليك سيدي ومعلمي الأول ، أطلب من شخصك الكريم المعذرة لأقلاق روحك الطاهر وحشرك في هذا العفن الذي يسكن البلاد الذي أحببت ويحيط الأرض الطاهرة التي كانت طاهرة ولم تعد اليوم لما أصابها من عبث العابثين وهزو الهازائين بالحياة والطبيعة والموروث الضخم الذي خلفه لنا الأجداد الذين سطروا الحياة حروف من فخر وسمو ورفعة وحفروا في الصخر الأصم قصة الحياة المشبعة بالعمل والمملؤة بالأباء والكبرياء والعزة والمفاخر ..
سيدي لم يعد الطريق الذي كنت تمر منه وأنت تسير بعيد الفجر نحو المدرسة حديثة الأنشاء في الأتجاه الشرقي للمدينة ، لم يعد كما كان طاهراً تحيطه الأشجار والأزهار والثمار ذات الرائحة الطيبة .. ولم يعد كما كان ممهدا مرفوعة عنه القذارات والأشواك والأحجار .. لكنه أصبح مصبات لقذارات المنازل وغسيل البطون والملابس والأواني المنزلية تصب على السبيل في غير خوف من الله ولا حياء من خلقه وملائكته
وعندما تصل المدرسة لن يسرك مرآها رغم حداثتها وجمال مبناها .. ستجد كل أوساخ شرق المدينة التي كانت طاهرة ولم تعد كذالك تحيط المبنى المدرسي من كل الجهات والرائحة الكريهة لن يطيقها أنفك الطيب ولن يتسع لها صدرك الذي يملؤه الطهر والأيمان والناس يا سيدي يمرون على القذارات دون مبالاة ولا يهمهم أمرها وكأنها قد أصبحت جزءً لا يتجزء من حياتهم اليوميه لا يطيقون الحياة دون أن يتنفسوا هذا العفن ..
ليس ذلك وحسب .. سيأتي أبنائك الطلاب .. طلاب العلم والمعرفة .. لن تسمع أصواتهم الصداحة الفرحة كالعصافير تشقشق في ساحة المدرسة في صباح الحياة والشمس تطل على جبن من خلف الجبال لتملأ حياة الصغار بالدفء والوجود بالأشراق .. سيأتي الصغار في اللحضات الأخيرة من الدقائق الأولى لليوم الدراسي الجديد وسترى قليلا من المعلمين يشرقون على صباح اليوم الدراسي .. قليلاً منهم .. أما الكثير .. فهم ينعمون الآن بالدفء في سرائر النوم يحلمون بالمستقبل لأبنائهم في مكان آخر بعيداً في المكان والزمان
فالتربية اليوم لم تعد كما كانت في الماضي رسالة يحملها ورثة الأنبياء الذين يحملون المستقبل والأمل ويلقنوه للصغار كما العصفورة تلقن صغارها فن الطيران والبحث عن الرزق وبناء العش والحذر من الأعداء والتعامل مع الحياة والبيئة بالقدر الذي تحمله من الأمانة التي أبتها الجبال ورضيها الأنسان هذا الظلوم الجهول ..
يعتصرني الألم وأنا أتنقل معك في صرحك الذي ضللت تزاول فيه دورك حين لم يكن هناك سواك من يقوم به وكنت تأتي إليه مع الشمس حين ترسل أول زخاتها من الضوء وتأوي إلى بيتك مع الشمس وهي تغوص في الأفق خلف الجبال وتحمد رب الخلائق أن جعل يومك مباركا وحقلك مثمراً وتثني عليه الحمد والشكر لنعمة الصحة والرزق الطيب الحلال .. لكنما معلمين اليوم - إلا قليلاً منهم - ليسوا على ذلك الدرب .. درب الشوك الذي سرت وسار عليه زميلي دربك الإستاذ عبدالستار الكولي والإستاذ علي عبدالدايم وكنتم حلقة العلم والتربية الأولى في هذه المديرية ..
هيا بنا سيدي إلى الصف الأول من المرحلة الأبتدائية (الأساسية) بمدرسة الفاروق " كانت تسمى عامر عبدالوهاب سابقا " .. لماذا تضع إصبعيك على أنفك الطيب .. لا .. لا .. إن الرائحة الكريهة ليس مبعثها الطلاب الصغار ولا أحذيتهم فالنوافذ الواسعة مفتحة من الشمال والجنوب والهواء البارد يدخل بكميات كافية .. نعم عدد الطلاب في هذا الفصل قد يصل إلى المأة طالباً يجلسون مزحومين كل أربعة أو خمسة طلاب على ماسة واحدة لا تكاد تتسع لثلاثة منهم .. والنوافد يجلس عليها عدد لا بأس به من الطلاب الذين لا حول لهم ولا قوة .. يشير إلينا أحدهم ببرائة الصغار إلى خارج المدرسة من الناحية الشمالية .. " إستاذ .. إستاذ (تشاحر) ، تطل برأسك البهي والرياحين تزينه وتلقي نظرة على سيلاً من المياه السوداء الآسنة التي تنبعث منها الروائح الكريهة ويصعقك المنظر الكريه والرائحة القذرة فترجع ورأسك الطاهر لتدرك أن الأطفال الصغار الذين هم على أول عهدهم بالمدرسة والتعليم .. يتلقون الدرس في مكان غير طاهر وهم بالأضافة إلى أنهم معرضون للأصابة بكل الأمراض المعدية والأوباء ، بالأضافة إلى ذلك هم يتلقون اليوم درسا على الطبيعة في كيفية التعايش جنباً إلى جنب مع القذارات والأوساخ في بيئة تفتقر إلى أبسط مقومات الرعاية الصحية لمجتمع يضع رأسه تحت التراب لكي لا يرى الخطر المحدق بغروس المستقبل أجيال الغد عدة الوطن والأمل الذي يتطلع إليه يمن الحكمة والأيمان ومهد العروبة الأول.
المشكلة – إستاذي ووالدي الجليل - لم تعد عمر السركال يجلس متكئا عند مصبات المنازل المحيطة بمنتجعه وهو يلوك القات ويرتشف الماء من البحيرة السمراء ويغتسل ويتمضمض غير عابئ بالأحياء الأموات الذين يمرون من أمامه يرمونه بنظرات هاربة لا تعي ما تراه ولا تريد أن تدرك أبعاد وخطر ما تراه .. بل أصبحت اليوم .. كل صغار المدينة الطاهرية يجلسون جنبا إلى جنب مع قذارات حمامات المنازل المحيطة بالمدرسة المدارس .. المساجد .. البيوت .. الملاعب .. يتنفسون هوائها القذر ويلعبون فوق سيلها الآسن ويسيرون فوقها ويصنعون بيت الغراب من التراب المخلوط بفضلات البيوت .. أحد طلاب الصف السادس يقف بفضول عند باب الفصل ويقول: "عاد لو تشوف المدرسة من الناحية الشرقية يا إستاذ (با تطرش)" ! طالب آخر يوشوش في إذن مدير المدرسة قائلاُ : "ماشي معانا إستاذ لهذه الحصة ياإستاذ " وزميله من الصف التاسع أساسي يقول في صوت منخفض متحاشيا أن نسمع - ونحن الضيوف على المدرسة – أن نسمع المشاكل التي تعاني منها المدرسة وكأن الأمر سرياُ لا يجوز أن ينشغل به الضيوف الكرام ! يقول الطالب لمدير المدرسة ما معناه أنهم لم يحصلوا في يومهم الدراسي هذا وهو يكاد ان ينقضي سوى على حصة واحدة مدتها خمسة وأربعين دقيقة (ربما) .. يتكاثر الطلاب الذين يتوجهون لمدير المدرسة بشكاوي من هذا القبيل ويحمر وجه المدير وهو يلمح إهتمامك وأنا بالموضوع ننكر أن يكون الحال التربوي قد صار إلى هذا المئال .. ونحن نرى سيلا من المعلمين المخضرمين ورثة الأنبياء والمرسلين يملؤن حيز عاصمة الطاهريين مبعثرين خلف مكاتب البيروقراطية المقنعة ويسيرون في الأسواق ويجلسون على قارعة الطرق يرقبون الحدث عن كثب ويرصدون كل شاردة في الزمن الضحل ويلوكون كل شيء يجري فوق البسيطة ويشبعون مشكلة التربية والتعليم بالنقاش والكلام الجميل وسا وسوف ولو .. ولأن .. ولكن .. وأشياء من هذا القبيل كثيرة لا تسمن ولا تغني من جوع ثم ينصرف الجميع إلى الفراش الوثير لينعم بالدفء والراحة ويستعد لأستقبال يوما جديدا على نفس المنوال ..
لماذا تدمع عيناك إستاذي الجليل ؟ لماذا تتأوه وأنت الذي لم نسمع في حضرته الآه ..؟ أنت الذي قضيت جلّ عمرك تسقي الأجداد والأباء ونحن علوم ذلك الزمن وحدك .. يأتي سيل التلاميذ من الجهات الأربع للمديرية ولا ولم تتذمر أو تمنّ أو حتى تشكو حالك لسوى الله الذي كنت ترجوه العون والثواب ..
هذا زمن الكلام .. زمن التنظير .. زمن لكل شيء خارج نطاق العمل .. نقول كثيرا ولا نعمل .. وإن عملنا قليلاً .. طال صراخنا كل شيء وصار ضجيجاً وضوضاء يشوه ولا يبني .. هذا زمن الضمير فيه يعاني من سكرات الموت .. ويخضع للعلاج في غرف الأنعاش ..
أولا يستشعر مثقفوا هذا البلد الطيب الذي أبتلي بهذا الحال .. هذا الخطر .. أولم تقرع الأجراس لتنذر الناس بالطامة الكبرى .. لماذا لا يزور الأباء أبنائهم في فصولهم المدرسية ليلمسوا المشكلة في حجمها الحقيقي .. لماذا لا يتعامل المجتمع بمثقفية ومنظماته وجمعياته وسياسييه ومسؤليه مع المدارس والمعاهد والكليات على أساس من حقيقتها باعتبارها مزارع يغرس فيها المستقبل ومصانع يصنع فيها الرجال والأمهات ؟
هل شاهد أحداً منهم حال الفاروق ..؟ وعامر عبدالوهاب ..؟ والقدس ..؟ وطالبات كلية التربية في رداع ..؟ والمعهد المهني ..؟
المشكلة كبيرة والأسئلة هي الأخرى بحجم المشكلة والقضية هي المستقبل الذي يتشكل في الحاضر .. كيف نتمناه ؟ وكيف نراه ؟ وأين تكمن المشكلة ؟ وما العمل ؟
ذلك هو سؤال المستقبل سيدي الجليل ، أعذرني لاستدعائك إلى هذا الوحل ، غير أني أردتك أن تكون شاهداً على هذه اللحضة بتداعياتها وسيئتاها .. وعلاقة ذلك بالمستقبل .. علاقة ذلك بالأمل .. علاقة ذلك كله بيمن الحكمة والإيمان ..؟
فلك ولروحك الطاهر الشكر والعرفان وأسأل الله لك الرحمة والمغفرة ولنا الصبر والسلوان