تكن علاقتي بمكاني ملتبسة من قبل، دائما ما كانت كتبي هي ما تحدد مكاني- إذا أحببت المكان، اصطحبت اليه كتبي وإذا ارتحت فيه ملأته بتفاصيلي الصغيرة. عندما كنت في الصف الأول في كليتي، كانت مذيعة الراديو والكاتبة الشهيرة وأستاذتي في الجامعة (وصديقتي وأمي الروحية بعدها) سحر الموجي تتحدث عن أماكن القلب وكانت تطلب من المستمعين أن يتصلوا بها ويحدثوها عن الأماكن التي يحبونها. لم أتمكن من الاتصال بسحر في تلك الليلة، فارسلت لها رسالة أحدثها عن غرفتي.
غرفتي في بيتنا القديم التي عشت فيها طفولتي ومراهقتي، والتي افرغتها لي أمي بعد وفاة أبي وصارت لي وحدي بعد أن كانت غرفة نومهما. في غرفتي كان دولابهما الكبير الذي وضعت داخله صورة أبي الكبيرة لأن ملامحه كانت فيها جامدة، وهذا ما لم اعتده منه. في غرفتي القديمة شباكان، وستارتان متطابقتان وبينهما سريري. كانت هوا وطراوة في الصيف وحنينة ودافية في الشتاء. كان فيها مكتب والدي الصاج القديم (ماركة طلعت)، والذي صار مكتبي طبعا، وكان على جسم المكتب المهيب بصمة كفي وأنا صغيرة عندما دهنت يدي بالكوريكتور الأبيض وقفشتني ماما. كنت أحاول ان أمسح يدي في المكتب قبل أن يحل بي العقاب طبعا.
غرفتي القديمة بها كتبي، وبوسترات الفرق الأجنبية التي كنت مهووسة بها وقتها، وبها أيضا الكومبيوتر وجهاز الكاسيت (أبو بابين) ومجموعة الشرائط (الماستر) التي كنت اشتريها واتبادلها مع أصحابي وقت ثانوي. كانت غرفتي وحدي، ومساحتي الخاصة التي كنت أستغلها كيفما أشاء دون أن يتدخل أحد.
وعندما تزوجت، صارت علاقتي بمكاني معقدة بعض الشيء. مكاني لم يصبح لي وحدي، ولو إنه أضاف لي مما افتقده في غرفتي القديمة: أن أتخفف من ملابسي وأنام على السيراميك وأسمع فيروز دون أن يكون هناك من يزعجني أو يسألني ماذا أفعل. أثثت البيت على ذوقي: بسيط ويحترم المساحات ويكره الكركبة ويشبهني، حتى إن كل من رآه، رآني فيه، ولكنني لم اتعامل معه قط كمالكته؛ ودائما ما كانت تحاصرني فكرة وجودي المؤقت فيه. لم أشعر أن هذا هو بيتي الذي تستكين فيه روحي، بل إني وجدت فيه وحشة ووحدة ووبرودة قارصة تنخر القلب. كرهت جدرانه التي طالما رأتني ابكي وانهار، وصرت أحافظ على الكنب والدوالايب والمطبخ لمن ستأتي بعدي.
لم أجرؤ على دق مسمار واحد في الحائط، وكنت أتعامل مع الأشياء بحذر مفرط، لأنها أشياؤه وليست أشيائي. حتى عندما غضبت وثرت حطمت صندوقين موسيقى بورسلين كنت قد اشتريتهما من سفري الأخير وكنت أحبهما جدا- كي لا أُلام أنني احطم ما لا يخصني. كرهت بيتي فبادلني الكراهية، أصبح يجثم علي ليلا وأنا غافلة، فاصحو من نومي مختنقة ولا أجد هواء اتنفسه. انظر لجدرانه الفارغة التي خفت أن ازينها بشيء من الغيظ، وكنت أقول لنفسي أنني لن أتورط في حب هذا المكان، لإنني ساتركه، وقد علمتني الحياة مرارة فقد الحبيب، ولم ارغب في تكرار هذا ثانية.
لم أبدا في حفر مكاني على صدره سوى قريبا، بعد أن قررت البوح والمواجهة والمحاولة. بعد أن قررت أن اختاره ثانيه، وهو الذي مسح حبه بقلبي وخذلني بجدارة واصرار. راهنت عليه ثانية، وعلى أشياء جمعتنا منذ سنوات طويلة، وراهنت على صدق عينيه وحبه لي. قررت أن احبه ثانية، وأن اسامحه على صمته وتأففه وبعده وقسوته وعلى ليال كثيرة أعطاني فيها ظهره دون "تصبحي على خير".
عندها فقط استطعت أن أدق أول مسمار في الجدار، وكأنني أثبت أقدامي وأقول أنا هنا. عندها صار عندي لوحة كبيرة طالما تمنيتها أنا وطالما تجاهلها هو- لوحة فارغة أعلق عليها أحلامي وقصاصاتي وأفكاري بدبايس المكتب. كان لدي شيء مشابه في غرفتي وحتى في مكان عملي القديم، كنت اسميها حائط الالهام- وكنت أضع فيها صور من ألهموني واقتباسات من جمل اعجبتي وقصائد شعر ورسومات وجداول للأحلام، وعندما صار لي حائط الهام جديد بعد حرماني منه 4 سنوات، شعرت بأنني اتنفس.
تحت اللوحة وضعت مكتب صغير وطابعة ودبدوب ضخم، وبدأت أخرج الكراكيب من بيتي بكل الحماس بعد أن قرأت عن فائدة وأهمية هذا في تحقيق الصفاء النفسي والسعادة. الصقت صورا أحبها في غرفة المعيشة واشتريت زرع للبلكونة، حتى إنني أعدت صورنا إلي برواز الساقية الكبير الذي يتسع ل 12 صورة ووضعته على طاولة القهوة. كما إنني أخرجت كتبي من الدواليب- وصففتها فوق بعضها وسمعت فيروز وقرأت.
مكاني هو جزء مني، وامتداد لي.. هو تعبيري عن نفسي وأحلامي.. هو مساحة تقبلني ولا تحاسبني.. فيه عريي بلا خجل.. وفيه أخاطب الله عندما ينام الجميع..وفيه نتشارك الحياة.. ونتخاصم ونتصالح ونحاول.. ونصنع الذكريات.