الشخصيات الكبرى هي التي تصنع التاريخ.. فلو لم يكن علي عبدالله صالح “مثلاً” هو من يقود اليمن خلال فوضى ربيع الساحات لما وصلت البلاد إلى ما نحن عليه الآن، ولعمَّت الفوضى شمال الوطن وجنوبه وشرقه وغربه.. فرجل مثل علي عبدالله صالح وصل إلى السلطة بانتخابات حرة شهد لها العالم أجمع، يمتلك شعبية كبيرة ولا زال رصيده الدستوري والقانوني يضمن له البقاء حتى سبتمبر 2013م، كان باستطاعته التمسك بهذا الحق الدستوري والشرعي والشعبي ورفض أية دعاوى للرحيل عن السلطة وبما يكفله له الدستور والقانون، كان باستطاعته قمع أي خروج عن سلطة الدولة وضرب أي تمرد بيد من حديد.. ولكنه فضل مصلحة الوطن والشعب على أية مصالح شخصية أخرى وارتضى تسليم السلطة بطريقة ديمقراطية سلمية، وهو ما تم فعلاً في الـ21 من فبراير الجاري، حيث شهدت البلاد انتخابات رئاسية مبكرة توج فيها المناضل عبدربه منصور هادي رئيساً للجمهورية.
* نعم العظماء هم من يصنعون التاريخ بمنجزاتهم العظيمة، وانتخابات 21 فبراير2012م في اليمن بالطريقة التي شاهدها الجميع تعتبر منجزاً عظيماً لرجل عظيم اسمه علي عبدالله صالح.. ولكنني هنا – رغم المقدمة الطويلة- لست بصدد الحديث عن المشير صالح أو المشير هادي، فمواقفهما الوطنية المشرفة لا تحتاج لمن يُسوّقها ورصيدهما الوطني هو من يحكي عنهما.. ولكنني هنا أستذكر شخصية عظيمة جاءت من المغرب العربي لتصنع مجداً في جنوب غرب الجزيرة العربية، وتعيد تفعيل الحكمة التي كادت ان تضيع من عقول أهلها.
* وسواءً قبلنا أم لم نقبل يجب علينا الاعتراف بأن الحكمة اليمانية التي نفاخر بها لم تكن كافية لاخراج البلاد من عنق “الأزمة” لولا جهود ابن “تطوان” المغربية جمال بن عمر، الذي أخلص لليمن أكثر من كثير من اليمنيين أنفسهم.. من خلال الوساطة التي قادها بين الرئيس وأحزاب المعارضة – أيام ما كان في معارضة- وأمضى نحو سنة متجولاً بين جنيف وصنعاء والحصبة والستين والسبعين وصعدة وتعز وعدن.. ورغم محاولة قوى وشخصيات في المعارضة الانجرار وراء رغبات أسيادهم في الخارج- أشقاء وأصدقاء- وتدويل الأزمة اليمنية، إلاَّ أن بن عمر كان يؤكّد منذ أول زيارة له إلى اليمن في فبراير 2011م بأن الحل لا يمكن إلاَّ أن يكون يمنياً وتوافقياً وسلمياً.. وهو ما حدث الثلاثاء الماضي.
* جهود بن عمر للتقريب بين فرقاء العمل السياسي قوبلت بكثير من العراقيل والحواجز والمتارس، سواء من قبل قوى داخلية رجعية – مشيخية وعسكرية- تحمل من الحقد على رئيس البلاد ما يملأ السماوات والأرض.. أو من قِبَلْ دويلات خارجية أرادت صنع زعامة لها على حساب اليمن، كما عملت في دول أخرى، ولكنها في اليمن لم تجن غير الفشل.. لذلك فقد عمل هؤلاء على إفشال مهمة وسيط السلام جمال بن عمر تارة بالسعي لتفجير الوضع عسكرياً، وتارة أخرى بالتحريض الإعلامي ضده وتزييف تصريحاته، ووصل بهم الأمر حد الكذب بإسمه.. ومحاولة إيصال رسالة للمجتمع الدولي بأن الحل السلمي لن ينفع في اليمن.. ولكن “الصموت” بن عمر فهم (بذكائه وكياسته ودبلوماسيته) المخطط القذر لبعض الأطراف الداخلية والخارجية فأصر على انجاح مهمته وإحباط هذا المخطط.
* لذلك فإن من الانصاف - ونحن نعيش أفراح- العرس الديمقراطي المتمثل بنجاح الانتخابات الرئاسية المبكرة - أن نرفع القبعات احتراماً للسياسي العربي جمال بن عمر، مهندس هذا التوافق.. ولا شك بأن نجاح بن عمر في اليمن سَيُكْتَبُ في رصيده السياسي والوظيفي، وسيعلي من شأنه في الأمم المتحدة.
* ولمن لا يعرف، فإن جمال بن عمر هو دبلوماسي مغربي الجنسية من مدينة “تطوان” وينحدر من أسرة ريفية وجبلية.. ويعتبر من ألمع الدبلوماسيين الدوليين الذين صنعوا مجدهم بعيداً عن حكوماتهم.
* بن عمر الذي أصبح اليوم يوصف بأنه يمثل سُلطة قوية داخل أروقة أكبر منظمة عالمية، كان معتقلاً سياسياً في بلاده حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، واضطر إلى الهروب عبر مضيق جبل طارق ليصنع مستقبله بنفسه.. حيث اعتقل وهو ما زال تلميذاً بإحدى ثانويات مدينة تطوان عام 1976م، ومن داخل السجن حصل على شهادة البكالوريا وبعدها شهادة الإجازة وحضَّر شهادة الماجستير في فرنسا عن طريق المراسلة، وأفرج عنه في صيف عام 1983م ليغادر بعدها إلى لندن، وفي عام 1986م سافر إلى جنيف والتحق بمجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة.. ولم يزر بلاده المغرب إلا عام 2005م على إثر وفاة والدته.
* ويوماً عن يوم يتعاظم شأن هذا المغربي داخل أروقة الأمم المتحدة ليصنع لنفسه مجدداً يعجز الكثيرون عن تحقيقه.