مع بدء الأزمة السياسية في اليمن عدت قليلا إلى التاريخ السياسي لهذا البلد كي
أعاين تجارب الحكم السابقة وقد توصلت إلى خلاصة مفادها أن فترات الحكم الناجح في هذا البلد هي تلك التي
تم الاتفاق فيها على طبيعة السلطة وتسلمها بواسطة المساومة والتوافق الوطني،وان فترات الحكم الفاشل هي تلك
التي تمت بواسطة الانقلابات العسكرية والعنف الدموي وقد سجلت هذه الخلاصة منذ حوالى ثمانية اشهر في هذه
الزاوية، في مقال بعنوان حوار الشجعان وحوار الطرشان واعيد اليوم نشر المقال مع تعديل طفيف ذلك أن تجربة
الشهور الثمانية الماضية قد بينت أن الحرب الأهلية تعصف باليمن وان السلطة لم ولن تنتقل بالإكراه والعنف
والانقلاب العسكري وأن الخروج من المأزق الراهن يتم بشرط واحد هو العودة إلى المربع الأول أي الحوار
ومن ثم الحوار ولاشيء غير الحوار.. وفيما يلي خلاصة تجارب السلطة السابقة في النصف الثاني من القرن
العشرين.
يفصح التاريخ السياسي لليمن الجمهوري عن أن التغيير الناجح للسلطة كان يتم على الدوام عبر المساومة
السياسية بين الأطراف الفاعلة في الحكم والمعارضة ويتحول الى مشكلة عويصة أوالى مأساة دموية أحيانا،
عندما يتم بطريقة انتقامية أو بالقوة المسلحة، أي بالإكراه والقسر. ويلاحظ كمثال على الحالة الاولى ان
المعارضة اليمنية المجتمعة في إطار ما عرف من بعد بحركة 5 نوفمبر «تشرين الثاني» 1967
استطاعت أن تقنع المشير عبدالله السلال بالتخلي عن منصبه لانها كانت تمثل اكثر من ثلاثة ارباع الدولة
والمجتمع الأهلي في شمال اليمن، علماً ان قادتها كانوا مسجونين في القاهرة وقد عادوا لتوهم في أول
نوفمبر «تشرين الثاني» إلى الحديدة، حيث كانت القوات المصرية المعين الابرز للسلال تتجمع
للرحيل وفهم الرئيس اليمني أن بقاءه في الحكم بات مستحيلاً مع عودة العائدين وانسحاب المنسحبين
فقرر الاستقالة على طريقته.
ويروي العميد الراحل يحيى المتوكل الذي كان شاهداً على تفاصيل تلك اللحظة أن السلال خاطبه
هو ورفاقه بالقول: انتم عائدون للانتقام والاستيلاء على السلطة فقلنا له:نحن مجردون من السلاح
والثورة في خطر ويجب أن نوحد كلمتنا. قال ستعودون إلى أعمالكم ويجب أن نكرس جهودنا للدفاع
عن الثورة "خصوصاً أن المصريين يغادرون اليمن" وختم: أنا مسافر إلى روسيا والعراق.. لكنه
سافر ولم يعد وفهم المعارضون أن الامر قد صار لهم فتولوا السلطة بعد مضي أربعة أيام على
تلك المحادثة.
وفي 13 حزيران يونيوعام 1977 اطلق القاضي عبدالرحمن الارياني آخر تهديد له بالاستقالة
للضغط على المجتمع السياسي اليمني المتنازع حول حكمه وذلك ضمن سلسلة من التهديدات
التي كانت تنتهي عموماً لمصلحته، لكن هذه المرة استقال بصورة قاطعة وتسلم الحكم المقدم إبراهيم الحمدي
الرجل القوي في المؤسسة العسكرية اليمنية، لكنه ما لبث أن تعرض للاغتيال بعد اقل من ثلاث سنوات
على توليه الحكم، ليخلفه المقدم احمد الغشمي الذي اغتيل بدوره بواسطة ((سمسونايت مفخخة))
أرسلت إليه مع مبعوث رسمي من عدن، وذلك بعد مضي ستة اشهر على توليه السلطة ليتيبن
ان التغيير بواسطة الاغتيال والتفجير لا يدوم طويلاً، فضلاً عن انه قد جلب الخراب لليمن فقد قيل حينذاك
أن السلطة الرسمية لا تتعدى العاصمة وأحيانا القصر الرئاسي وبالتالي لا يمكن لهذه السلطة أن تتوسع
وان تنتشر في كل انحاء البلاد، إلا بالابتعاد عن الاغتيالات وحل المشاكل السياسية بواسطة العنف
والانتقام وهو ما حرص عليه الرئيس الجديد علي عبدالله صالح الذي تولى السلطة بتفويض
من المجلس التمثيلي الشرعي الوحيد في صنعاء حينذاك و- ليس عبر انقلاب عسكري كما
يزعم بعض المؤرخين الأغبياء .
وفي جنوب اليمن تولى السلطة الرئيس الراحل قحطان الشعبي بتفويض من القوى الأساسية في البلاد بعد
تحريرها من المستعمر البريطاني غير ان حكمه الذي استمر من العام 1967 حتى العام 1969
لم يستمر طويلا، فقد ازاحه ائتلاف قوي يمثل الاكثرية الساحقة من الناشطين
في عدن بزعامة سالم ربيع علي المعروف ب "سالمين" وعلى الرغم من شعبيته الكبيرة
فقد رفض قحطان استخدام القوة ضد خصومه وخضع للعبة السياسية في التيارالحزبي الذي
حرر البلاد مع علمه التام ان النتيجة لن تكون لصالحه، فكان أن غادر الحكم لكنه سرعان
ما تعرض للاعتقال والاقامة الجبرية الى ان توفي معتقلاً. وخلفه سالم ربيع علي (سالمين)
وقد استمر حكم "سالمين" في عدن حتى العام 1978م
الى أن اتهم بتدبير انفجار الغشمي في صنعاء وتمت ازاحته من طرف ائتلاف حزبي جديد
بزعامة عبدالفتاح اسماعيل وكان ان دفع انصار سالمين ثمناً باهظاً لإعدام زعيمهم الذي يروى انه قال
لجلاديه "اليوم نحن وغداً انتم" وهو ما سيقع بعد فترة حكم الرئيس الراحل عبدالفتاح اسماعيل
الذي حكم لسنتين ازيح بعدها بهدوء من طرف الرئيس الاسبق علي ناصر محمد الذي أزيح
بدوره بعد مجزرة 13 يناير عام 1986م الدموية,ليتبين في جنوب البلاد ايضاً ان الشعب اليمني
لايحكم بقوة السلاح ولابقوة الايديولوجيا وان التغيير في اليمن لا يتم بواسطة الاكراه والاجبار
والانتقام وانما بالتراضي والمساومة والاعتراف بميزان القوى الفعلي على الأرض.
ما من شك في ان المجتمع اليمني يختلف عن غيره من المجتمعات العربية ليس فقط بسبب
غلبة الفئات الريفية التي تعيش على اقتصاد ما قبل راسمالي, وليس فقط بسبب تماسك البنى
القبلية اليمنية أو بسبب مخاطر الفتن المذهبية وانما أيضاً بسبب ثقافته السياسية التقليدية التي
تتيح الجمع بين الحسم والمساومة, فقد انتصر النظام الجمهوري بقوة السلاح وبالمصالحة الوطنية
مع ملكيي الشمال وانتصرت حركة نوفمبر بالمساومة مع الناصرية التي كانت لتوها قد احتجزت
زعامات الحركة في السجن ودام حكم الرئيس علي عبدالله صالح لانه تصالح مع القسم الاكبر
من خصومه أو المنقلبين عليه وحكم بالتراضي والحزم والمساومة.
لا نريد القول من خلال التذكير بهذه التجارب ان المجتمع اليمني ليس قابلاً للتغيير،
بل هو بحاجة ماسة له لكن بالوسائل الملائمة التي تحمل التغيير دون انحراف البلاد نحو
الحرب الاهلية أو الفتن المذهبية أو الصوملة واللبننة والافغنة والبلقنة والعرقنة, واذ نعترف جميعاً
أن لا تغيير في اليمن بالقهر والعنف والإرغام.. فهذا يعني أن الحوار هو الطريق الأقصر للتغيير.
. فهيا إذن إلى حوار الشجعان.