فلســـــطين .. الذاكرة التي تحمل الحلم
وليـــد ســــــيف
وهنا، عَوْدٌ إلى بَدء
إننا ننتصر في معركةِ المعاني والرموز.. في معركة الذاكرةِ والحُلُم. ولذلك لن ننسى.. ولن نسامحَ.. وليس في وُسع أي تسويةٍ سياسيةٍ منقوصةٍ أن تلزمَنا ذلك
فمعركةُ المعاني تُحيلُ من جديد إلى الفضاء العربي الذي تنتظمُ فيه قضيتُنا الفلسطينية.. كان شعارُنا بعدَ "النكسة" أن المقاومة الفلسطينيّة رأسُ الحَربة العربيّة التي لا تكتملُ إلاّ بعمقها العربي. وإذا كان المشروعُ الصهيوني ينتظمُ في المشروع الاستعماري للهيمنة على الأمة العربية وتقويضِ مشروع نُهوضِها، فإن ذلك يفرض بالضرورة شكلَ النقيض ومَداه: أن يَتَشارَطَ هدفُ التحرير الفلسطيني وهدف النهوض العربي.
صحيحٌ أننا أخفقنا في ترجمة هذه العلاقة الشرطيةِ من الطرفين، وأن هذا الإخفاقَ قد أسهم فيما أفضينا إليه من المفارقة بين الحق والواقع. ولكن ذلك لا ينبغي له أن يُسقِط المبادئ ولا أن يصادَرَ على المستقبل. فالصراعُ من أجل النهوض العربي يبقى قائماً، ونحن جزءٌ منه. وهو يضمرُ بقاءَ الحُلُم الفلسطيني غيرِ المنقوص. والشرطُ في ذلك أن نبقى على صمودنا في معركة المعاني، فلا نُطابِقُ بين مفهوم الدولةِ ومعنى الوطنِ في الظرف القائم، ولا بين مفهوم الواقعِ ومفهومِ الحق.. وعليه، لا ننسى ولا نُسامِحُ ولا نُبَدِّلُ الأسماءَ والصفاتِ، ولا نُغيّرُ روايةَ النكبة والظلمِ التاريخي الذي وقع علينا.. أبداً!
وإذا كانت الشروطُ الظرفيةُ لم تُفْضِ بالأمة العربية إلى عبور رأسِ الجسر الفلسطيني صوبَ البحر الفلسطيني، فإن شطراً من مقاومتِنا القادمةِ أن نمنعَ عدوَّنا من اتخاذِنا رأسَ جسر له نحوَ العُمْقِ الشعبي العربي، في ظِلّ أي تسويةٍ سياسيةٍ محتملة. فنحن سَدَنَةُ الذاكرة، ينسى الآخرون بنسيانِنا ويذكرون بذاكرتِنا.. ويُعَرِّفون العدوَّ بتعريفاتِنا..
بخلافِ الهوياتِ القُطْرِيَّةِ العربية الأخرى، لم تنشأْ هويتُنا الوطنيةُ الفلسطينيةُ نقيضاً للهوية العربيةِ أو بديلاً عنها، وإنما نشأتْ وتعزّزتْ على خلفِيَّةِ الصراعِ مع النقيضِ الصهيوني. وهم يَسْعَوْنَ الآن إلى تجريدها من هذه الخلفيةِ ومن هذا السياق، في إطار مشروعِهم الذي يرمي إلى إعادةِ تعريف المنطقة، من وطنٍ عربي يتعرّفُ بهويِته القوميةِ الحضاريةِ ولا يستطيعُ المشروعُ الصهيونيُّ أن يَنْتَظِمَ فيه، إلى شرقٍ أوسط جديدٍ تتشاركُ فيه دولٌ تنطِقُ بالعربيةِ وأخرى بغيرها، وتندمجُ فيه "إسرائيل" من موقعٍ مركزيٍّ مُهَيمِنٍ لتؤدِيَ وظائِفَها الإستراتيجيةَ وكيلاً عن المركز الإمبراطوري.
بل يذهبُ المشروعُ إلى أبعد من ذلك، وهو إعادةُ تشكيلِ الدولةِ العربيةِ القُطْرِيةِ نفسِها، أو تفكيكُ بُنْيَتِها الاجتماعيةِ السياسية، لِتَصيرَ ائتلافاً هَشّاً لمنظومةٍ من العُصَبِ العِرقيةِ والطائفيةِ والقَبَلِية. كأنَّ التجزئةَ القُطْريةَ نفسَها لم تكن كافيةً لتقويضِ المشروعِ القومي النهضوي. فالدولةُ القُطرية القائمةُ -على ما فيها- ما زالت تنتسِبُ إلى الهوية العربية، وما زالت تستخدمُ مفرداتِ النظامِ العربي الإقليمي مهما تكُنْ دلالاتُهُ العمليّة.
أما إذا صارت -كما يُرادُ لها الآن- منظومةً من العُصَب العِرقية والطائفية والقبَليّة، فإنه لا يصحُّ لها أن تُعرّفَ نفسَها بصفة العُروبة، حتى وهي تُقدّم هويتَها القُطريةَ على الهوية القوميّة!
ولو أُتيحَ لهذا المشروع الاستعماري الجديدِ أن يتحققَ، فإنه يعني خَلْقَ شروطٍ بُنْيَوِيَّةٍ جديدةٍ لِدَفْنِ مشروعِ النهوض العربي وتأبيدِ حالةِ التَبَعِيّةِ، وهذا بِدَوْرِه يُضمِرُ وَأْدَ الحُلُمِ الفلسطيني الممتدِّ على مساحة الوطن، والمماهاةَ بين مفهوم الحق ومفهومِ الحلّ السياسي، وإعادَةَ كتابةِ الرواية الفلسطينية ليَسقُطَ منها الماضي.. والماضي في حالتنا الفريدةِ، هو حارسُ الحُلُم والمستقبل.
ألم نَقُلْ: هي معركةُ المعاني والتعريفاتِ التي تَتَنازَعُ على تشكيلِ المَشهَد المتعيِّن؟
وإذن، فنحن أحوجُ من أي وقت مضى إلى تأكيد العُمق العربي لهويتنا ووطنِنا وقضيتِنا، وإلى إعادة الاعتبار لجَدَلية النهوض العربي والنضالِ الفلسطيني وأن أيَّ إنجازٍ حقيقيٍ في أحد المجالين المُتَشارِطَين يُضمرُ إنجازاً في الآخر. وهذا في الأصل هو فضاءُ الصراع الذي رَسَمَ حدودَه العدوُّ نفسُه.
...
لو كنتُ "إسرائيلياً" وتقمّصتُ روحَ الفلسطيني ساعةً من الزمان، لَمُلِئْتُ بعد ذلك رُعباً، ولآثَرْتُ الرحيلَ من أرضٍ لا ترتحلُ من ذاكرةِ أبنائِها.
أطفالٌ في مخيماتِ المَنافي لم يَُرَوا فلسطينَ ولم يشمّوا ريحَها، تسألُهم أن يَدُلّوك على بيت أحد سكان المخيَّم، فيسألونك: من أين هو؟ فتحارُ لأوّل وهلةٍ.. كيف يسألونَك عن مكانه وأنت السائل؟ لتدركَ بعد لحظات أنهم يَعْنون بلدَ الأصلِ في فلسطين. فهم يُعَرّفون الناسَ بِأصول الوطن التي حملوها معهم. تستوي في ذلك الأجيالُ المختلفة. فاللاجئ الذي وُلِدَ في المنفى لأبٍ وُلِدَ مثلَه فيه، لم يغيّرْ عُنوانَ دارِه ودارِ آبائِهِ الأولى، حتى وإن أُزيلت عن الوجود. وهو الآنَ أكثرُ امتلاءً بهويتهِ من جَدِّه الذي أُخرج منها. فمنذُ الخروجِ حتى هذه اللحظةِ تنامت رمزياتُ الوطن، وانتقلت من خلفيةِ الوعي إلى مُقدّمتهِ، ومن المُسَلَّمِ به إلى سؤال الوجود وشرطِه.
"
لا ندَّّعي ولا نكابرُ ولا نغرق في التَعِلاّت حين نقول: لقد خسر العدوُّ رِهانَهُ على تغييب الذاكرة معَ غياب الأجيال الأولى من اللاجئين. فمن يملكُ أن يُسقطَ حقَّهم في العودة في أي تسويةٍ سياسيةٍ محتملة، مهما يكنْ مدى المفارقَة المفروضةِ بين قيمة السلام وقيمة العدل؟!
"
كيف يحدثُ هذا؟ كيف استطاع المُخَيَّمُ أن يحتفظَ باسمِه، بعد أن حلّ الإسمنتُ محلَّ الخيامِ القديمة، وعلى الرغم من الوَصْمَة التي أُلْحِقَتْ ظُلماً بالمُخيم وأبنائه؟ إنها مقاومةُ الوعي لتغيير الصفَة، فما دام المخيمُ مخيماً فهو عابرٌ مؤقتٌ في زمن عابر. وفي حيّزِ المخيم الضيّق، كانت الأجيالُ تتوالى وتتكاثرُ دون أن يتوسعَ المكان. فكان لا بدّ أن تتزاحَمَ الأجيالُ في الحيّز المكانيِّ المحدود نفسِه. وهذا التزاحُمُ الخانقُ على ما فيه من الشقاء، كان باطنُه الرحمةَ، فقد شكَّلَ الظرفَ البُنيويَّ الذي يسَّرَ عمليةَ التراسلِ الحميمي المباشرِ واليوميِّ بين ذاكرة الأجداد ووعيِ الحَفَدَة.
لا نغلو إذن ولا ندَّّعي ولا نكابرُ ولا نغرق في التَعِلاّت حين نقول: لقد خسر العدوُّ رِهانَهُ على تغييب الذاكرة معَ غياب الأجيال الأولى من اللاجئين. فمن يملكُ أن يُسقطَ حقَّهم في العودة في أي تسويةٍ سياسيةٍ محتملة، مهما يكنْ مدى المفارقَة المفروضةِ بين قيمة السلام وقيمة العدل، بين معنى الواقع ومعنى الحق، بين حدود الدولةِ وحدودِ الوطن؟!
وإذا كان العدوُّ يُصرُّ على أن حقَّ العودة يُبْطِنُ ردَّ النزاع من جديد إلى شعار "معركة الوجود"، وأنه يُضمِرُ تقويضَ شرطِه الوجودي الذي أعلن السلاحُ العربيُّ عجزَه عن تقويضه، وكنا نُصِرُّ في الطرف المقابل على أن العودةَ حق لا يمكن إسقاطُه، حتى مع القَبول بخيار التسوية، والاحتكام إلى "الشرعية الدوليّة"، دون شرعيةِ الحق والعدل، فإن ذلك يكشفُ عُمقَ الأزمة التي لا بدّ أن يواجهَها خيارُ التسوية. وإذ يدركُ العدوُّ أبعادَ هذه الأزمة، فقد لا يجدُ لنفسه مفرّاً منها إلاّ اصطناعَ الظروف التي تُسَوِّغُ له فَرْضَ حلٍّ منفردٍ يُريحُه من استحقاقات هذا السؤال.
ولكنَّ هذا الحلَّ المنفردَ بدوره، لا يضرُّ بنا أقلَّ مما يضرُّ به، إذ يُلزِمُه الانكفاءَ وراءَ جُدُرِهِ المُشَيَّدَةِ، فيَحولَ بينَه وبين اجتناءِ استحقاقات السلام في العُمقِ العربي.
اللاجئ إذن هو مِسمارُ الحق التاريخي في حائطِ الواقع الظرفي، وطيفُ الوطن الفلسطيني التاريخي الذي يستعصي على الانحشارِ في ثوبٍ أقلَّ منه!
وبعدُ..
سيقولُ المُخَلَّفون من الأعرابِ ودعاة الرِدّة وسماسرة الإمبراطورية: أيُّ نهوضٍ وأيُّ عربٍ وأيُّ حقٍ وأيُّ حُلُمٍ، وأيُّ معانٍ ورموزٍ وذاكرةٍ وهويّةٍ وتعريفاتٍ؟ وسوف يُحيلون ذلك كلَّه على مُعْجَمٍ ماضٍ يَصِمونَهُ بِغِوايَةِ الشعراء وأوهامِ الرومانسيّة الثوريّة. ويستدعون في المقابل مفرداتِ العَوْلَمَة والواقعيةِ والعقلانيّة، ثم يضعون الجلادَ والضحيّةَ على سويّةٍ أخلاقيةٍ واحدة، ويَجمعون في صِفَةِ التطرّف بين من يحلُم بالحق كلِّه، ومن يريد أن يصادرَ الحقَّ كلَّه!
وسوف ينتظرُ آخرونَ حتى تتعَوْلَمَ مقاوَمةُ العولمة، لتكتسبَ روايتُنا عن الحق الفلسطيني وكفاحُنا من أجلِهِ شرعيةً جديدةً تستندُ إلى مَرجِعٍ عالميّ، ونستردَّ معها مُعجمَ التحرر والتحرير والاستقلال والنهضة!
فليكن..
ولكننا لن ننسى، ولن نسامحَ.. ولن نُسقطَ من يدِنا وضميرِنا جَمْرَةَ الحُلُمِ الفلسطيني.. فلسطين في نهاية درب الآلام، أو هي القيامة!
ــــــــــــ
شاعر وأديب فلسطيني
المصدر: الجزيرة
أن يقرأ هذا الموضوع الرائع لوليد سيف عن فلسطين .. الذاكرة التي تحرس الحلم شاب من شباب أمـــــة الضاد .. من شباب الأمة العربية .. فذلك مكسب كبير لإرادة نشر الوعي بالمقاومة .. الطفل، الشاب والرجل المقاوم للإحتلال والظلم والقهر فيكون بالوعي أقوى من الدبابة ويحمل في خلايا ذاكرة الحلم إرادة تتغلب على ألأباتشي والصواريخ الموجهه .. فلكم التحية والأكبار لمروركم وقرائتكم هذا العمل الكبير الذي سأل الله أن يجعله في ميزان حسنات كاتب التغريبة الفلسطينية .. وليد سيف