كتب تركي الحمد في الشرق الاوسط:
منذ أن وطأ الصهاينة أرض فلسطين، حاملين معهم مشروع الدولة الإسرائيلية، ونحن في مواجهات معهم لم نحصد خلالها سوى الفشل تلو الفشل. وفي كل المواجهات مع إسرائيل منذ عام 1948 وحتى اليوم، نخرج منهزمين عسكريا في هذه المواجهات، بالإضافة إلى أن سمعتهم الحضارية، على الرغم من كل ما فعلوا منذ دير ياسين، هي في القمة، مقارنة بالصورة التقليدية للعربي في الغرب. صحيح أن جزءا من هذه الصورة صنعه الإعلام وهوليوود، ولكنْ فيها جانب صحيح، خاصة فيما يتعلق باليهودي عامة، والإسرائيلي خاصة، فما الذي فعلوه ولم نفعله، وما الذي لديهم وليس لدينا، على الرغم من قلتهم وكثرتنا؟ فعلى الرغم من كل ما فعلوه، فإن الإسرائيلي يبقى أكثر احتراما من العربي في دول العالم، والغرب خاصة، فلماذا كان ذلك؟ فعندما أنظر إلى التاريخ، أجد أن تاريخنا أنصع من تاريخهم، على الأقل في العهد البعيد، وإلا فإن اليهود اليوم أكثر إسهاما في الحضارة المعاصرة منا، خاصة عندما تنظر إلى أعداد العلماء والفلاسفة والمخترعين منهم.
وعندما أنظر إلى الخريطة، أجد أن وجودنا أكبر، فمساحة العالم العربي هي حوالي خمسة عشر مليون كيلو متر مربع من مساحة الكوكب، بينما مساحة إسرائيل اثنان وعشرون ألف كيلو متر مربع. وعدد سكان العالم العربي يقدر بحوالي 314 مليون نسمة، بينما يقدر سكان إسرائيل بحوالي سبعة ملايين نسمة، منهم مليون ومائتا ألف عربي، وفق إحصاءات عام 2008. ثروات العالم العربي الطبيعية، من نفط وماء ومساحات خضراء، أو قابلة لأن تكون خضراء، ومعادن أخرى، يفوق ما في أرض فلسطين التاريخية كلها بمراحل كثيرة. بل يكفي القول إن أرض السودان وحدها قادرة على إطعام كل العرب، فيما لو استغلت وحرثت وبذرت، ومع ذلك فإن إسرائيل تتفوق علينا في كل المجالات، عسكريا، على الرغم من جيوشنا الجرارة، وميزانيات دفاعنا التي تصل إلى أرقام فلكية، واقتصاديا، وتكنولوجيا، وهي اليوم من كبار منتجي شرائح الكمبيوتر، وصناعيا، وزراعيا، بحيث أن بعض بلاد العرب ذات التاريخ الزراعي العريق الذي يعود إلى آلاف السنين، تستورد خبراء إسرائيليين في هذا المجال، وهو الأمر الذي أغاظ عادل إمام في فيلم «السفارة في العمارة»، حين اكتشف أن خبراء إسرائيليين يعملون في تطوير الزراعة في مصر، فقال، «بقالنا سبعة آلاف سنة بنزرع، ويجي دول يعلمونا!»، ولكنها الحقيقة على الرغم من الآلاف السبعة. فما الذي لديهم وليس لدينا، مفترضا أننا كلنا من البشر، وأننا متساوون في العقل، والقدرة على الفهم والإدراك؟
أخذت أفكر في هذه المسألة كثيرا، فمعطياتنا أكثر من معطياتهم، وكان الإله كريما معنا جدا، فمنحنا النهر والبحر والنفط والمساحة ونوعية بشر جيدة، تبرز جودتها حين تغادر أرضها، فما الذي يجري؟ لماذا نهزم أمامهم، وجيوشنا جرارة «تسد عين الشمس»، كما وصفها مراقب من الشعب لتلك الجيوش الجرارة التي خرجت من القاهرة إلى سيناء، كما عبر عنه فيلم، «الكرنك»، حيث يقول ماسح الأحذية لرواد المقهى الشهير، «والله ما كنش لكل ده لازمة، دحنا لو خرجنا عليهم بالنبابيت كنا هزمناهم»، والنبوت هو العصا الغليظة، وهذا يفسر جزءا من عقلية سائدة قياسها قائم على الكم لا على الكيف، وفي النهاية، فإن «العدد في الليمون» كما يقول أهل المحروسة.
في أعماقي، أنا مؤمن بأن إسرائيل إلى زوال، دولة وليس بشرا، ولكن متى يكون ذلك؟ مائة سنة، مائتان، ثلاثمائة سنة من الزمان؟ لا ندري، أو ربما في آخر الزمان، ولا ندري متى يكون آخر الزمان هذا، فللزمان نهاية، لا شك في ذلك، ولكن لا ندري متى يكون ذلك، فهل نكون من القاعدين حتى تقوم «أرماغدون»؟ ولكن من الآن وحتى نهاية الزمان، كيف نتعامل مع الأمور؟ هل نبقى من المنتظرين، أم «نفعل الممكن» ونمارس السياسة وفق هذه السياسة؟ سيأتي يوم لن يكون فيه لهذه الأرض وجود، بعد أن تنطفئ الشمس بعد ألف مليون سنة، وهذه حقيقة علمية، فهل نكتف الأيدي لأن ذلك سيحدث، وندخل في عبثية لا أول لها ولا آخر، لأن الدنيا إلى زوال في نهاية المطاف؟ هذا هو حالنا نحن عرب اليوم، فنحن من المنتظرين ليس إلا، وهنا تكمن المشكلة، ولكن اليهود أيضا من المنتظرين، فمسيح آخر الزمان منهم ويعمل لصالحهم، وفق عقيدتهم، ولكنهم يفعلون ما يفعلون على الرغم من أنهم من المنتظرين أيضا.
وبالعودة إلى السؤال الرئيس، وبعيدا عن حكايات آخر الزمان، ماذا لديهم وينقصنا، حتى فاقونا في مختلف المجالات، على الرغم من أن كل المعطيات تقول إننا الأقرب «للفوز» في مثل هذه المنافسة، أو لنقل في مبارة كرة القدم بيننا وبينهم؟ في ظني أن الجواب لا يكمن في الكم بقدر ما يكمن في الكيف، فأفريقيا بطولها وعرضها، أغنى طبيعيا بمراحل من قارة مثل أوروبا، أو أستراليا الجرداء في معظمها، أو حتى اليابان الفقيرة في مواردها الطبيعية، ولكن أوروبا وأستراليا أكثر تقدما اقتصاديا، وأكثر إنتاجا من القارة الأفريقية، بل حتى اليابان، تلك الجزر الضيقة المنعزلة فقيرة الموارد، أكثر إنتاجا وإسهاما في حضارة اليوم من أفريقيا، وربما أسيا أيضا، ولا أريد أن أقول كوريا الطارئة على عالم الإنتاج والإنتاجية، وهي التي كانت هامشية الوجود قبل أقل من نصف قرن من الزمان. وفي هذا السياق، يمكن طرح سؤال آخر، لماذا كانت كندا والولايات المتحدة هما الأغنى والأكثر إنتاجية وإسهاما في حضارة اليوم التكنولوجية من بقية الأميركيتين؟ فما أن تدخل المكسيك وحتى تصل إلى أبعد نقطة في جنوب تشيلي، تدرك أنك دخلت عالما مختلفا، لا علاقة له بما يحدث في الشمال، على الرغم من أن كلا الأميركيتين عالم جديد. ليست المسألة كما ظن هتلر وبقية العنصريين من أن العرق هو السبب، حيث العرق الأبيض في الشمال متفوقا بطبيعته على العرق الملون الأدنى في الجنوب، ولكنها كما ظن فيبر من أن الثقافة وعقلية التعامل مع الأمور هي السبب. فالثقافة الأفريقية مثلا هي ثقافة «انتظار» انتظار المطر، انتظار ما تجود به الأنهار مثلا، ولكنها لا تحاول فعل شيء تجاه «قدر» فرض عليها. ثقافة الانتظار هي في النهاية ثقافة «استسلام»، ومن يستسلم لا يفعل شيئا. الثقافة الحديثة هي ثقافة فعل ومبادرة، فإن نجحت، فذاك هو المرجو، وإن فشلت، فلن تخسر شيئا، ويمكنك المحاولة مرة أخرى. ثقافة الاستسلام هي ثقافة إقرار بأنك من المفعول بهم، وفق مقولة، «قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه»، وثقافة المبادرة هي رفض لأن أكون «ريشة في مهب الريح»، وبالتالي، هي ثقافة الفعل والمحاولة.
وبالعودة إلى موضوع صراع العرب وإسرائيل، أستطيع القول بكل ثقة أن سبب الهزيمة أمام إسرائيل، حضاريا قبل أن يكون ذلك عسكريا، هو ثقافة التعامل، ولا تلعب الموارد دورا كبيرا هنا، طالما أن الثقافة أو العقل الذي يدير هذه الموارد، هو عقل خارج أطر الزمان والمكان. فالعرب عولوا على الوفرة والكثرة، فما هذه إلا «دويلة عصابات» و«شذاذ أفاق»، ناسين أن وفرة الرمل لا تصنع بيتا إن بقيت هذه الوفرة بلا خطة، فالرمال تملأ الصحراء، بينما قلة الرمل تصنع بيتا إذا كانت ضمن خطة. هولندا، دولة لا قيمة لها حين النظر كميا، فهي دولة مهددة بالغرق في كل حين، حيث إنها دون مستوى سطح البحر، ولكن التمرد على ثقافة الاستسلام جعلها إمبراطورية عالمية سيطرت على العالم ذات يوم، وما زالت قوية إلى اليوم على الرغم من زوال الإمبراطورية، وكذلك انجلترا، التي كونت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
نفتقد ثقافة التحدي، وثقافة التحول، فلا تحد دون تحول. حين تكون ثقافة التحدي والمبادرة وعدم الاستسلام هي السائدة، فلا خوف على القوم ولا هم يحزنون. ولكن حين يكون الاستسلام هو سيد العقل والفعل، فقل على الدنيا السلام، وأقصد هنا سلام العجزة والمنتظرين. وحين نتحدث عن التحدي والمقاومة، ونحو ذلك من مفاهيم، فإننا لا نتحدث عن مقاومة المسدس والبندقية، بل هي المقاومة النابعة من إرادة التحدي وفعل التغيير والسيطرة على الأمور، لا أن تكون الأمور هي المسيطرة، وفي ظني هذا هو ما ينقصنا، فنحن دائما بانتظار شيء ما، ولا نفعل شيئا في مرحلة الانتظار، فنحن بانتظار صلاح الدين كي يحرر لنا القدس، وبانتظار المهدي كي يملأ الدنيا عدلا، وبانتظار أوباما كي ينصفنا. بإيجاز العبارة، نحن للمطر من المنتظرين، بدلا من استحلاب السحب جلبا للمطر، وهذا هو سبب هزائمنا، كل هزائمنا، ولي عودة إلى مثل هذا الموضوع.