ههنا قضيّة على الأدباء إعادتها إلى طاولة مفاوضات النقد الأدبي: وظيفة الشعر . ثمّة فئة ظلت، منذ القرن الماضي، ولاتزال، ترفض البحث في هذا الموضوع جملة وتفصيلاً، وتعدّه تدخلاً سافراً في حرية الفن والفنان . والمعارك التي خاضها دعاة الليبيراليّة الفنيّة والإبداعية، ضد دعاة الالتزام الماركسيين، أشهر من المشروبات الغازية .
هذا موضوع الساعة في نظري . فقد أعطتنا التحوّلات العربيّة مشاهدَ تستحق التفكير العميق . كيف اتفق التونسيون والمصريون واليمنيون على اختيار بيتين للشابي وآخريْن للرافعي، وترديدها في أعظم الحشود العربية، ما يمثّل أكبر الأمسيات والنهاريّات الشعرية؟ هل من السهل وصف “إرادة الحياة” بأنها مجرّد شعارات وهتافات؟
لا أحد يدّعي أن النماذج التي اختارتها الجماهير هي أفضل الشعر . ما هكذا يتكلم العقلاء . لكن الملايين انتقت الشعر الموقّع الذي يحمل في وظيفته رسالة حيويّة، حياتيّة، هي تقرير المصير، وتحرير الإنسان من قيود الاستبداد، للإتيان بأنظمة تسهر على كرامة شعوبها وتقدّم أوطانها . فهل من العقل السليم القول إن هذه الأمور موضة بالية تجاوزها الزمن الشعري؟
لا شك في أن فرض الالتزام على الآداب والفنون جنون، شأن ما فعلته الستالينية . ولكن ضرب عرض الحائط بقضايا الأمّة، والتحديات التي تواجهها، هو الآخر جنون وفرار مهين . لم يكن محمد إقبال ماركسيّاً ولا إسلاميّاً متطرّفاً، بل شاعراً ملتزماً بامتياز، تلقائياً . وفي القرن العشرين أنجبت الأمّة العربية نخبة من الشعراء الملتزمين تلقائياً . ولكن يبدو أن هذا النوع من النجوم إلى أفول، ومن الأنهار إلى نضوب .
سأخرج عن الموضوع لأحاول تحديد العلّة . يلوح لي الأمر غير منفصل عن الانجرار منذ عقود إلى تقليد الغرب بالذات في الفنون والنقد ونظرياته . وهذا هو الاستلاب والتبعية . وهو ما أبدع في وصفه ابن خلدون، عند الحديث عن أن المغلوب يقلد الغالب في سلوكياته وذوقه وميوله . وهذا هو ما جعل بعض الأعمال الأدبية والفنيّة لا تمتّ إلى واقع الأمّة بصلة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً .
لزوم ما يلزم: على أدبائنا وفنانينا، أن يدركوا أن الآداب والفنون نتاج ثقافي مرتبط بخصوصيّة المكان والزمان، وإلا فلا هويّة له . ولا تناقض في هذا مع الطموح إلى أن تكون لنا آداب وفنون عالميّة . عندما تكون أنت أنت، وتغوص في أعماق ذاتك، تستطيع الوصول إلى كل ذات في سائر القارات
عبد الطيف الزبيدي