إن السؤال الذى ربما يلح على بعض المتصدين للعمل الوطنى ، دفاعاً عن حق الجماهير فى حياة آمنة ، هو : هل يعى هؤلاء الذين بذلت الحياة لنصرة قضاياهم قيمة ما أفعل ؟.. وهو سؤال يحمل السذاجة والانتهازية فى آن معاً ، ذلك لأنه يعامل مصير الجماعة بمنظور شخصى بحت ، ويناقش الأمور بمنطق المكسب والخسارة .
الإنسان صاحب القضية يختلف عن الإنسان العادى فى أنه يبذل كل شئ ، حتى النفس ، من أجل نصرة ما يرى أنه حق ، ومن أجل دفع ما يرى أنه ظلم . بل لعله يعلم يقيناً أن ثمرة الانتصار لن تصل بحال إلى يده ، بل إن مصيره أقرب إلى الموت . مع ذلك ، فإنه لا يتقاعس عن نصرة الاتجاه الذى يؤمن به . وكما تقول نتاليا بطلة تورجنيف الشهيرة : إن الذى يسعى إلى غاية جليلة يجب أن ينقطع عن التفكير فى نفسه . ربما المنطق العادى يحمّل المسيح مسئولية صلبه ، فقد كان أدرى الناس بصورة المأساة المقبلة ، ويحمّل الحسين مسئولية استشهاده ، فهل يقوى سبعون على محاربة سبعين ألفاً ، ويحمّل جيفارا مسئولية اغتياله فى أحراش بوليفيا ، فهو الذى كان يعلم جيداً بتلمس المخابرات الأمريكية لخطواته . لكن الخطأ فى طرح القضية بهذه الصورة ، ذلك لأن " المناضل " يؤمن بعدالة القضية وقداستها حتى على النصر ذاته ، وبالتالى على الهزيمة له ولأتباعه ، والتى قد تصل إلى التصفية الجسدية . كان الأستاذ فى الأسوار يعلم بالمصير الذى ينتظره فى نهاية النفق ، مثلما كان جيفارا يثق أن المخابرات الأمريكية تترصد له حتى تغتاله ، منذ اختار سبيل تصدير الثورة إلى خارج كوبا " مرحباً بالموت مادامت يد ثورية تمتد لتقبض على أسلحتنا من بعدنا " ، ومثلما كان الليندى ينتظر الاغتيال نهاية لإصراره على البقاء وحيداً ، وأعزل ، فى وجه القوات التى اقتحمت قصره ، ومثلما كان الحسين يعلم باستشهاده وهو يقود فرسانه القلائل من الحجاز إلى العراق . وعلى حد تعبير المستشرق الألمانى حاربين ، فإن " حركة الحسين فى خروجه على يزيد ، إنما كانت عزمة قلب كبير ، عز عليه الإذعان ، وعز عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذى يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيى به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة " . ويروى عن الإمام على قوله : لا تزيدنى كثرة الناس حولى عزة ، ولا تفرقهم عنى وحشة ، وما أكره الموت على الحق . كان الحسين يمتلك اليقين . وكان أعوانه الاثنان والسبعون يمتلكون اليقين نفسه ، بأن المعركة التى اتجهوا إليها صباح العاشر من محرم ، ستنتهى باستشهادهم ، لكن الدافع لم يكن مجرد الرغبة فى الاستشهاد ، فى الموت . كان الدافع هو التعبير عن رفض القهر والظلم ، حتى لو كان المقابل لذلك هو الموت . سقط كل جند الحسين شهداء ، فظل يواصل القتال بمفرده . حمل على جند الكوفة حتى شق صفوفهم بجرأة مذهلة ، ثم سقط بضربة سيف فى العنق . وأمر عبيد الله بن زياد ، فمثل بجسد الحسين ، وترك جثمانه للجوارح . أما الرأس ، فقد دفن ـ فيما بعد ـ فى كربلاء ، وإن ظلت أعداد كبيرة من المصريين تؤمن بأن رأس الإمام الشهيد مدفون فى جامعه بالقاهرة ..
وأغلب ظنى أن مصطفى كامل كان سيتخلى عن مبادراته الوطنية ، لو أنه عانق اليأس الذى فرضه التصور بأن الشعب المصرى يتقاعس عن التحرك وراءه ، نشداناً لحريته . عاب مصطفى كامل ـ فى لحظات سخط ـ على الأمة أنها " لا تسعى للوصول إلى هذا المرام السامى ، وإلى تحقيق أمنيتها . بل تريد أن تأتيها الحرية وهى نائمة ، فتوقظها من نومها " . وهو يقول فى رسالة إلى صديق : " ها أنا ذا أنتظر من يتبعنى ، وأظن الأيام والليالى تمر ، ولا يتبعنى غير الهواء " . ويقول فى رسالة أخرى : " إنى عالم بأنى لا أستطيع الاعتماد على أحد من أبناء جنسى ، وإنى إذا صودرت يوماً بأية طريقة كانت ، لا أجد من أمتى عضداً أو نصيراً ، وهذا ما يحزننى كثيراً . فإنى مع ارتياحى للمهمة التى عرضت نفسى للقيام بها ، والغرض الشريف الذى أعمل له ، أرى غيرى من الذين أحب التشبه بهم ، كفرانكلين وغيره ، كان يعمل ووراءه أمة تعزز مطالبه ، وتدافع عنه ، بعكس ما أنا فيه " . ويقول فى رسالة : " دعنى بالله عليك من هذه الأمة التى بلانى الله بأن أكون واحداً من أبنائها " إلخ [ لا تنشغل بتذكر مقولاته المعلنة مثل قوله إنه لو لم يولد مصرياً ، لتمنى أن يكون مصرياً ! ] . لكن الزعيم أدرك ـ فيما بعد ـ أن انتفاضات الشعب لا تتحقق يخطب تشتعل حماسة ، فالتحرك الجماعى يستند إلى التوعية أولاً ، فالإعداد والتنظيم ، فضلاً عن دعامة الوقت التى تضع لكل خطوة توقيتها وحسابها . والحقيقة التاريخية تضغط على أن صلب المسيح هو الدعامة التى تماسك عليها إيمان أتباعه بخلود رسالته وتواصلها . كذلك فقد كان استشهاد الحسين بداية طريق طويلة من الثورات المتلاحقة ضد السلطة الظالمة ، أياً تكن . وكان مقتل جيفارا دافعاً للمزيد من الحركات الثورية فى أمريكا اللاتينية . ولا يخلو من دلالة قول سلفادور الليندى ـ قبل دقائق من اغتياله ـ بأيدى قوات الانقلابيين ـ " إنى موقن أن تضحيتى لن تذهب هباء ، وأنها ستكون على الأقل درساً معنوياً لعقاب الغدر والخيانة والجبن " . فماذا أقول عن الخديعة التى استلبت أستاذ الأسوار من وسط أتباعه ، لتودى به إلى المصير المؤلم ؟
كان محمد بن إبراهيم الحسينى العلوى يمشى فى بعض طرق الكوفة ، فنظر إلى عجوز تتبع أحمال الطرب ، تلتقط ما يسقط منها ، وتضعه فى كسائها الرث . فلما سألها عما تصنع بذلك ، قالت : إنى امرأة لا رجل لى يقوم بمؤنتى ، ولى بنات لا يعدن على أنفسهن بشىء ، فأنا أتتبع هذا من الطريق ، وأتقوته أنا وولدى . فبكى محمد بطاء شديداً ، وقال : أنت وأشباهك تخرجونى غداً حتى يسفك تماماً . وفجر محمد بن إبراهيم الحسينى العلوى ثورته العظيمة التى استمرت فترة طويلة ، وتعاقب عليها ـ بعد استشهاده ـ العديد من الثوار ، وامتدت إلى العراق والشام والجزيرة واليمن . ومع أن الصوفى لا يعنيه إن كان مجتمعه يعانى عسف حكامه ، أو أوضاعاً اقتصادية سيئة ، ذلك لأن فلسفة التصوف تكمن فى فناء العاشق فى المعشوق ، العبد الفقير الفانى فى الخالق الأعظم الباقى بعد فناء الأرض ومن عليها ، ثم فى الاعتزال التام لحياة البشر ، والانكفاء على الذات والمجهول من الأسرار ، وتفحص المخلوقات نشداناً لروح الخالق .. مع ذلك ، فإن أبا منصور الحلاج رفض أن يغض بصره عن الظلم الرهيب الذى كان يعانيه مجتمعه فى حكم العباسيين ، فنزل إلى الأسواق ، يبصّر الناس ـ بالرمز ـ بحقيقة أوضاعهم ، ويحثهم على أن يدافعوا عن حقوقهم ، ويثوروا على ظلم الحاكم ، فقبض عليه الحاكم ، وشهد ضده أقرب رفاقه ـ الإمام الشبلى ـ فاتهمه بالزندقة ، وحكم عليه بالصلب على جذع شجرة ، تطل على شاطئ الكرخ ببغداد . وبالمثل ، فلم تكن ثورة الحسين طلباً للسلطة بقدر ما كانت محاولة لاستعادة الحق الذى طال احتجابه على يدى يزيد بن معاوية . وكانت الأهداف التى ناضل من أجلها الحسين ، تمثل المصالح العريضة للجماهير الكادحة . وحين خرج على معاوية ، فقد كان موقناً من تأييد هذه الجماهير له ، ومحاربتها إلى جانبه . لكن الظروف الموضوعية لم تكن مواتية لنجاح الثورة . وكان فى مقدمة تلك الظروف غياب الوعى عن الكثرة الغالبة من جماهير المسلمين ، ومن ثم فقد أخفقت الثورة ، وإن ظلت أفكارها فى عقول القلة التى ظلت تتكاثر بما تبدّى فى تلك الثورات المتلاحقة ، والمتكررة ، فى المجتمع الإسلامى . كان مع الحسين ـ فى كربلاء ـ اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، استشهدوا جميعاً ، وواجه الحسين بمفرده جيش عبد الله بن زياد . مع ذلك فإن مقاتلى ابن زياد هموا بالفرار ، خوفاً من أن يصابوا على يدى الحسين ، ولما صاح فيهم شمّر بن ذى الجوشن : " ويحكم ماذا تنظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم " ! حملوا على الحسين من كل جانب ، وضربه زرعة بن شريك التميمى على يده اليسرى ، فقطعها ، وضربه آخر على عاتقه ، فسقط على وجهه ، وقام ، وسقط ، والرماح والسيوف توالى طعنه ، حتى مات بثلاث وثلاثين طعنة وأربع وثلاثين ضربة ، غير الرمية بالنبل والسهام . وأقدم شمر بن ذى الجوشن على جسد الشهيد ، فذبحه ، واحتز رأسه . لقد أصبح الحسين ـ بعد مأساة كربلاء ـ " سيد الشهداء ، ورمز الإيمان والفداء ، وموضع الحب والتقديم والإكبار " . كذلك فلم يكن فى مغادرة جيفارا لموقعه المتفوق فى كوبا ، وانشغاله بالقتال ضد السلطة الديكتاتورية فى بوليفيا ، تطلعاً لمنصب ، لكنه حمل السلاح دفاعاً عن حق شعب بوليفيا فى حياة خالية من الظلم . رفض أن يشاهد الإنسان الضحية فى حلبة المصارعة ، ويتمنى نجاته . إن عليه أن ينزل الحلبة ، ويشارك الضحية مصيرها ، إما إلى الانتصار أو الموت . كان جيفارا ينتمى إلى عائلة موسرة . وكانت مهنته كطبيب تتيح له حياة اجتماعية طيبة ، لكنه ارتدى " الكاكى " ، واختار الثورة ضد الرداءة حيث توجد . كان بوسع جيفارا أن يطمئن إلى منصبه كوزير للصناعة ، بعد أن أفلحت الثورة الكوبية فى انتزاع النصر ، لكنه فضل أن يواصل النضال فى موقع آخر . تخلى عن كل مناصبه وسلطاته فى كوبا ، وترك أطفاله فى رعاية الثورة الكوبية ، وانطلق ليواصل الثورة فى إفريقية ، ثم فى أمريكيا اللاتينية ، حتى لقى مصرعه فى بوليفيا . وكتب إلى كاسترو ـ قبل أن يسافر إلى أحراش بوليفيا : " إنى لم أحزن لأنى لم أترك لزوجتى وأولادى أى شئ مادى . على أنى مسرور لهذا ، ولا أطلب لهم أى شئ " . وواجه جيفارا لحظة المفاضلة بين الكرامة ونقيضها عند أسره فى بوليفيا . حاول أحد الضباط أن يسخر منه ، فركله جيفارا بقدمه ، بحيث ألقاه بعيداً . وحاول ضابط آخر كبير ـ هو الجنرال هوجاريتشى ـ أن يدفعه إلى الكلام ، فبصق جيفارا فى وجهه . ودفع الثمن ـ بالطبع ـ فى اللحظة التالية : " هذا الشىء القليل الذى نستطيع تقديمه : حياتنا وتضحياتنا " . والمؤكد أن جيفارا كان واعياً بالمصير الذى تقوده إليه خطواته ، وبأن الاستشهاد هو المصير الذى ينتظره فى نهاية الطريق . ورغم معرفته اليقينية بذلك ، فإنه أصر على السير فى الطريق إلى النهاية [ أذكرك بما قاله الحسين وهو فى طريقه إلى كربلاء ] لكنه تطلع إلى تحرير الجماعة بتحريكها ، فإذا استشهد مقابلاً لما يؤمن به ، فإنه سيعطى المثل لمعنى الإيمان بالقضية ، وبالمثل الأعلى ، وللمترددين والمتخاذلين ، بما يتيح الصحو لشعوب طال نومها .
(لم يكن فى دعوة الأستاذ [ الأسوار ] شبهة غرض شخصى . تحمّل الاشتغال والتعذيب ، وأسلم نفسه إلى الموت دفاعاً عن هؤلاء الذين أحبهم أكثر من نفسه . أما الحسين ، فقد خذله الشيعة الذين استغاثوا به ، وتركوه للمصير المؤلم تحت سنابك خيل الأمويين ، وانطلقت الرصاصة التى قتلت جيفارا من مسدس ضابط بوليفى صغير ، بذل المناضل الأرجنتينى حياته دفاعاً عن حقه فى الحياة . وكان نزلاء المعتقل ـ حلمى عزت بالذات ، ذلك الذى حماه الأستاذ من أذى الآخرين ـ هم الذين دبروا القرعة الظالمة ، ليدفعوا بالأستاذ إلى الشهادة دفاعاً عن الجميع . أسر بكر رضوان [ الأسوار ] إلى نفسه ـ غداة إحدى مرات الإفراج عنه ـ " هؤلاء الناس ـ أبناء الأنفوشى ـ هم محبوبه الذى ضيّع العمر إشفاقاً عليه . فهل كان الحب من طرف واحد ؟ هل تعنى المحبوب اللحظة ، مقطوعة الصلة بما مضى ، وما سيأتى ؟ وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة فى العذاب ؟.. هذه الكلمات ـ وبكر رضوان يرى أهله وناسه منصرفين عن واقعهم الأليم ، كأنما لم يدفع أعواماً من حياته فى سبيلهم ـ تذكرنا بكلمات الحسين بن على فى حشد الجيش الأموى ، يوم العاشر من المحرم : " تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً . حين استصرختمونا والهين ، فأصرخناكم مرجفين . سللتم علينا سيفاً فى إيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ، وبدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفنوه فيكم ، ولا أمل اصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش نعمتم فيه " . وكان ما أسره بكر رضوان ، أو ما أعلنه الحسين ، هو الهاجس الذى لابد أنهم خاطبوا به أنفسهم ، أو أعلنوه للجماعة ، هؤلاء الذين بذلوا النفس دفاعاً عما هو حق وصدق وعدالة [ فى زماننا الردئ ، فإن شخصية بكر رضوان تذكرنى بقادة اليسار المصرى الذين أمضوا أجمل سنى حياتهم فى معتقلات عبد الناصر . هتفوا بحياته ، وبشعارات المرحلة ، وهم يلقون أبشع ممارسات التعذيب ، حتى الموت . ظلوا يهتفون لعبد الناصر والثورة والاشتراكية ، وسط الضربات المتلاحقة التى لم تهدأ إلا بعد أن هدأت أنفاسهم ، وماتوا . جاوزوا آلامهم الشخصية ، وجعلوا الوطن قضية ، لا يعدلون بها قضية أخرى . كان عبد الناصر على صواب فيما يدعو إليه ، ويطبقه بالفعل ، فتناسوا العذاب الذى لاقوه بأيدى أعوانه ، وأعلنوا ولاءهم للبسطاء ، وللثورة ، وللغد الذى يعلو فوق العذابات الشخصية !. لو أنهم نظروا إلى المصالح العامة من منظور مصالحهم الشخصية ، مثلما فعل الرأسماليون والإقطاعيون الذين أضيروا بقوانين الثورة ، فلعلهم كانوا الآن هم الأعلى صوتاً ضد عبد الناصر ومعطيات عهده ] . لكن البذل لم يهدر ، والصيحة المخلصة لم تواجه التلاشى فى وادى الصمت . كان الشعور بالإثم هو الدافع لأن يقتل يهوذا نفسه بعد أن أسلم المسيح إلى قاتليه . وهو الدافع أيضاً لأن يزداد أتباع المسيح تمسكاً بتعاليمه . وكان الشعور ذاته هو الذى جعل جيفارا قدوة ومثلاً بين حركات التحرر فى دول العالم الثالث ، وارتسمت حول المناضل الشهيد هالة القداسة والأسطورة . وكان أيضاً هو الشعور الذى ارتقى بالحسينية إلى مرتبة العقيدة . ففى مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء ، ولعلها أخطر نتائجها ، أنها دخلت الضمير الإسلامى آنذاك ، وهزته هزاً عنيفاً . حركت فى النفوس ما كان خامداً ، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذى فرضه الأمويون . تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلاً ضد سبعين ألفاً ، بالحرص على الشهادة رغم يسر النجاة ، بإلقاء السؤال الأهم : ماذا بعد ؟ ، بحساب الذات عن التقاعس والتواكل ، بإعادة النظر إلى ما سبق ، وما يجرى حالاً ، والتفكير فى ضرورة التغيير . ولعله يمكن القول إن فاجعة كربلاء ـ رغم بشاعتها ـ كانت ثورة كاملة . أحدثت التأثير الذى تحدثه الثورات فى تحريك النفوس ، وإلحاجها على التغيير ، حتى يتحقق المجتمع الأفضل . تعددت ثورات التوابين ، همها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد ، فى حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموى . ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة ، أيا تكن صورتها ومظاهرها . وربما كان ذلك هو الشعور نفسه الذى تحرك فى نفوس الزملاء القريبين ، بل كل نزلاء المعتقل ، بعد أن بذل الأستاذ نفسه فى سماحة ، دفاعاً عن حقهم فى الحرية ، وفى الحياة . لم تدفعه الخيانة الواضحة إلى رفض القرعة ، لكنه أسلم النفس إلى جلاديه فى قناعة المؤمن بأن شهادة الفرد قد تكون فداء للجماعة ، وخلاصاً لها . وكما يقول برتراند راسل فإننا حين نعرف النهاية نغدو أقوياء ..
أخيراً ، فإنى أتفق مع جون مورلى فى أن " الأفراد الذين يرون الضوء ـ وهم بطبيعة الحال الأفراد المثقفون ـ إذا أحجموا عن احتمال ما عليهم من تبعة ، فإنهم يضاعفون العلل الأخلاقية فى المجتمع . وهم لا يحرمون المجتمع من مزايا التغيير فحسب ، بل من يرون شعوره بالحاجة إلى التغيير ضعفاً ، وإيقاظ الإحساس الأخلاقى فى المجتمع من العوامل الهامة فى تقدمه [ المثقف الذى أعنيه ، هو الذى يملك استعداداً للتضحية بصالحه الشخصى من أجل صالح الجماعة ، لا يكتفى بترديد الشعارات عن الديمقراطية وإنكار الذات ، وإنما يحرص على تطبيق تلك الشعارات بالفعل ] . ولعل السبب المباشر فى انحطاط كثير من المجتمعات ، يرجع إلى ما يطرأ على الضمائر من الفساد وضعف الإحساس الأخلاقى . ولم يصب الضعف والتخلف الإغريق لنقص علمهم بالمذاهب الأخلاقية ، وإنما أصابهم من جراء تناقص عدد الذين يقدرون واجباتهم الأخلاقية ، وما عليهم من تبعات هامة . ويعلل انتصار المسلمين على المسيحيين فى الشرق وفى أسبانيا ، بأنه راجع إلى احترامهم للواجب ، وما كان يثيره فى نفوسهم من حماسة ".