الفضل شلق
لا بد من الإجابة على السؤال: لماذا لم يستطع العرب أن يقيموا دولة من أي نوع؟ يجيب البعض أن الدولة العربية التي أقامها العرب استبدادية، والاستبداد يلغي الدولة بالمبدأ، ويحوّلها إلى مجرد نظام ذي مؤسسات؛ والنظام، كل نظام، يحتاج إلى شرعية كي يصير الناس مشاركين، كي يتحول الناس من رعايا، مجرد رعايا خاضعين للدولة، إلى مواطنين مشاركين ومساهمين في الدولة وفي وضع سياساتها. المواجهة ليست بين الاستبداد والديموقراطية، بل هي بين الاستبداد والسياسة، بين الاستبداد وإرادة الحاكم الطاغية من جهة، والسياسة التي هي إرادة الشعب، من جهة أخرى.
لا تستطيع الدولة العربية، أية دولة، أن تكون دولة، أي حائزة على الشرعية، وبالتالي قادرة على أن تكون الإطار الناظم للمجتمع، إلا إذا كانت دولة تعلن مبدأ العروبة، وتكون تنموية في آن معاً. لم تعد التيارات الإسلامية السياسية قادرة على أن تمنح الشرعية لأية دولة عربية، بل هي ستكون مثار حرب أهلية بين العرب، وذلك على الأقل، بسبب صعوبة اختيار أي تفسير تعطيه الدولة الإسلامية لإسلاميتها. العروبة هي الجامع المانع.
العروبة هي التي تعطي الدولة صفة جامعة لشعبها؛ وبالتالي تحوز الدولة الشرعية على أساسها. تقوّض العروبة نفسها عندما تمتنع عن أن يكون أساسها تنموياً مهما كانت ادعاءاتها. بالتنمية نستطيع أن نجعل للدولة جسداً، نستطيع أن نجعل الدولة تمنح مواطنيها معنى ومغزى يستحيلان بغيرها. بغير التنمية يصير المواطنون، ولو شاركوا في الدولة، وفي رسم سياستها، يصيرون كلهم أو معظمهم فقراء. يحتاج العرب في عروبتهم إلى التنمية، كي تكتسب العروبة معنىً إيجابياً، بعد عقود من عروبة أقطار حرمت أقطارها من التنمية، حين تبنت اقتصاد الريع النفطي، ووضعت النفط خارج المجتمع، وسلّمته عملياً لسلطات خارجية، وحولت أكثرية الناس، خاصة الشباب إلى عاطلين عن العمل. النفط ولو كان مصدراًَ مالياً لا يبني دولة بل يحرم المجتمع من بناء دولة؛ فقط الدولة الحاصل بناؤها، الدول المتمكنة من شرعيتها هي وحدها القادرة على استخدام النفط استخداماً رشيداً.
لم يعد دارجاً في الفترة الأخيرة الكلام عن العروبة. تمكنت الدولة القطرية، وظنت أنها «صارت شواهينا». صارت الأنظمة العربية تظن أنها تمكنت من أوضاع بلدانها، وأخضعت شعوبها إخضاعاً كاملاً؛ صارت نظماً استبدادية بكل المعاني؛ وصلت إلى أوج تطورها. في اللحظة التي بلغت أقصى تطورها سقطت، ولم تعد ذات صلة بما يجري. حتى نادي هذه الدول، الجامعة العربية، وهي أقدم منظمة إقليمية في العالم، لم تعد قادرة أن تبرر نفسها، ولو بالاحتيال، أمام شعوبها، عندما تحولت إلى واحدة من مؤسسات الإدارة الأمبراطورية للصراع؛ وذلك حين صارت تتخذ قرارات بالإملاءات من الخارج وليس بإجماع أعضائها. باختصار لم تعد الجامعة العربية تمثل العرب ولو شكلاً. وصارت الدول العربية بعض تفاصيل المواجهة بين الشعوب العربية والأمبريالية.
العروبة لكل دولة عربية هي المقتَل وهي المُنقذ. هي المنقذ لأن الدولة متى أعلنت نفسها عربية سوف تنال بعض الشرعية وسوف تسعى من أجل الوحدة العربية. وهي المقتل لأنها عندما تعلن نفسها عربية سوف تواجه غضب الأمبراطورية ومؤامرات الأمبريالية. العروبة تحفر قبر كل دولة عربية، ما لم تكن هناك مواجهة صريحة وحاسمة مع الأمبريالية. فهل تسمح موازين القوى بذلك؟
ظروف الثورة العربية تسمح بالتوحد الشعبي في مواجهة الأمبريالية. الشعوب متى أرادت، أي متى مارست السياسة، تتوحد ولا تستطيع قوة على وجه البسيطة مواجهتها. لكن هذا لا يكفي، إذ أن العروبة تتحوّل مجرد استحالة عملية إذا لم ترتبط بالتنمية الاقتصادية وحسن التوزيع. لا يمكن أن يكون نمط الإنتاج الاقتصادي العربي القائم على النفط، وانحباسه في صناديق العائلات الحاكمة، قاعدة لأية دولة عربية. إن فشل الدولة، ولو كانت صادقة في إعلانها عروبتها، وسعيها من أجل الوحدة، سيكون محتوماً ما لم يرتبط بالتنمية. لا يعقل أن تكون الدولة دولة حقيقية وأكثر من نصف شبابها لا يعملون.
تشمل العروبة ثلثي شاطئ المتوسط وامتداداً جغرافياً من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي. وسعي العروبة من أجل الوحدة سيجعلها منطقة ذات خطر على النظام العالمي وعلى إسرائيل التي يرعاها هذا النظام.
دخل العرب في مأزق عندما اقترنت عروبتهم بنظرية قومية مغلقة. تكون الأمة كياناً مفتوحاً عندما يسمح لمن فيها من الأكراد أن يكونوا أكراداً عرباً وللبربر أن يكونوا بربراً عرباً، وحتى لليهود أن يكونوا يهوداً عرباً.
هذا الأمر ترفضه الدول الأمبراطورية لأنه حلٌ يمكّن المنطقة من اجتياز محنتها في التقسيم والتجزئة واللامعنى واللامغزى، ولأنه مشروع يشكل خطراً على هذه القوى الكبرى ذاتها. لذلك استعاضت عنه بمشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، والذي يتميز بأنه ألغى العروبة، واعتمد نظرية «مكوّنات» المجتمع (المجتمعات) الطائفية والإثنية.
إسرائيل في مأزق أشد هولاً إذ أنها لا تستطيع قبول حل الدولتين بين البحر والنهر، ولا تستطيع في الآن ذاته قبول حل الدولة الواحدة للعرب واليهود، لأن اليهود وإن شكلوا أكثرية بسيطة الآن سيكونون أقلية كبرى بعد حين. مأزق وجود إسرائيل يعني استحالة استمرارها منطقياً، فهي عاجزة عن الرجوع إلى حدود 67 بوجود أكثر من نصف مليون من المستوطنين في الضفة الغربية.
الحل العملي والوحيد في المنطقة هو في العروبة؛ طبعاً العروبة بغير المفاهيم القومية المغلقة، العروبة بالتعددية الحاصلة فعلاً، وهي تعددية دينية وإثنية وطائفية وقومية. إن دولة عربية مؤسسة على عروبة مفتوحة تفسح المجال لوجود كل هؤلاء، بمن فيهم الأكثرية من الناس الذين يعتبرون أنفسهم عرباً وحسب. يتوجب علينا الطرح الوحدوي الآن، لأن الأقطار (الدول) العربية معرضة للتفكك والتفسخ. لا مستقبل لهذه المنطقة إلا إذا سعت لإعادة تشكيل نفسها على أسس جديدة.
العروبة قبل كل شيء وفوق كل شيء، هي عروبة قائمة على اللغة لا على الأصل الإثني أو القومي. كل تلك أوهام حان الزمن للإقلاع عنها. بالعروبة القائمة على اللغة والتاركة لأوهام الأصل والنسب يمكن لمجتمعنا أن يصير تعددياً. شرط التعددية الاعتراف بأن كلاً منا متعدد الهويات، وأن الطائفية والإثنية وحتى القومية تحاول اختزال الهويات المتعددة في واحدة. الهوية المرتبطة باللغة تتيح التفلت من كل هوية مؤسسة على الطائفة والدين. والحقيقة أن اللغة تتيح التفلت من كل هوية. التفلت من كل هوية يفتح الباب واسعاً أمام السياسة. السياسة إرادة. الارادة تجاوز لكل ما يربطنا بأصل أو تاريخ أو تراث. الإرادة حرية تتجاوز الديموقراطية. الإرادة الآن ثورة على السلطة، سلطة الاستبداد وسلطة كل المقولات. تتيح لنا اللغة التفلت من كل شيء وأن نقلب المعادلة. معادلة العلاقة بين الثورة والديموقراطية. هل نريد ديموقراطية مع الثورة أو ثورة مع الديموقراطية.
الآن، وحتى إشعار، وقد صارت الدول العربية مجرد تفاصيل في خضم هذا الصراع المفتوح بين الشعوب العربية العارية إلا من أرادتها وبين الأمبريالية (أو الأمبرياليات) المتحالفة حكماً مع أنظمة الاستبداد العربي، تنقذ الأنظمة العربية نفسها بالتوحد والتحول إلى ولايات متحدة، حتى ولو حافظت على خصوصياتها التي اكتسبتها من خلال صيرورتها إلى دول، دول استبداد طبعاً، على مدى العقود الماضية منذ استقلالها الشكلي حتى.
أمامي الآن كراس أصدره مركز دراسات الوحدة العربية، للواء طلعت مسلم، يعدد فيه عشرات القواعد الأميركية والفرنسية في مختلف الأقطار العربية. وأمامي الآن كتاب منشور حديثاً عن تاريخ الاقتصاد العالمي، عن الدخل الوطني سنوياً منذ العام الأول للمسيح حتى زمننا الراهن؛ الكتاب لمؤلفه أنفوس ماديسون، صادر عن منظمة التعاون الأوروبية (OECD).
الملفت أن الكتاب يعدد في جداوله دول أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، والصين والهند وآخرين من المنطقة الآسيوية. يبدو أن المنطقة العربية، بنظر الكاتب والمنظمة الناشر، هي هؤلاء الآخرين، أو هي من جملتهم.
لا أدري إذا كانت مهمة القواعد الإمبراطورية المنشورة في مختلف الأقطار العربية جعل الآخر آخر منسياً وملغياً ومحذوفاً من التاريخ وصولاً إلى حذفه من الماضي. ولا أدري إذا كان بوسع العرب العودة إلى العالم بغير العروبة فوق كل اعتبار قطري، مهما كانت الأقطار عزيزة على قلوبنا ودائمة الوجود.
أخيراً، هناك أنظمة عربية تعتبر أن بقاءها ضمانة لبقاء العروبة. لو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة للعروبة. على كل حال العروبة انتماء تلقائي ليس بحاجة إلى من يدافع عنه أو من يبرهنه؛ ولا يختفي باختفاء المدافعين عنه. الأهم من كل ذلك، العروبة ضمانة لجميع الدول العربية، بمقدار ما هي تعبير عن الوجود العربي، وبمقدار ما يستمر الارتباط بينها وبين الثورة العربية.