الوزير عضو مميز
تاريخ التسجيل : 15/11/2009 العمر : 54
| موضوع: الشيخ سلمان العودة وحديث عن الحوار الأربعاء يوليو 20, 2011 10:28 am | |
| [ #1 Abo Rimas أكاديمي مميز
تاريخ التسجيل: Jun 2007
الشيخ سلمان العودة وحديث عن الحوار
-------------------------------------------------------------------------------- الحوار هو عملية محاورة, تؤدي إلى التفكير في الآراء أو التراجع عنها أو الوثوق بها، وفي القرآن الكريم أشكال وأنماط متعددة ومختلفة من الحوارات، وهناك تلازم بين الحوار والأدب, وبين الحوار واللطف, وبين الحوار واللغة الراقية، فلا بد من وضوح الهدف، والحوار لا يكون في القطعيات المسلم بها في الإسلام؛ كالقرآن الكريم أو أركان الإيمان, والإسلام, أو الدين الجامع، ولا بد من مراعاة الشروط والآداب، والحوار لا يتعارض مع مفهوم الولاء والبراء، ولا يؤدي إلى الذوبان والتحول.
مجمل الأفكار التي يطرحها الشيخ/سلمان بن فهد العودة في هذا الحوار:
ما تأصيل مصطلح الحوار في الإسلام بين الحقيقة والمعنى؟ الحوار هذا لفظ شاع في عصرنا بطريقة ملفتة للنظر؛ حيث تستطيع أن تقول: إنه أصبح سمة من سمات هذا العصر, وظاهرة من ظواهره . فأنت تسمع مثلاً ( حوار الحضارات), ( حوار الشمال والجنوب ), ( الحوار العربي ), ( الحوار الأوربي ) وغير ذلك. ولعل من أبرز أسباب ذلك هو الثورة أو الانفجار المعلوماتي الذي حدث في هذا العصر؛ فلم يعد هناك أحد كائناً من كان فوق الحوار فإن لم تتكلم وتحاور في شاشات التلفزة استطعت ذلك عبر الإنترنت ودهاليزه اللامتناهية أو المجالس أو غيرها. ولذلك يجب أن يترسخ لدينا أن أي كلمة أراد صاحبها نشرها فلها طرقها ومسالكها الكثيرة . والعصر مختلف تماماً عن سابقه؛ لذلك هناك ضرورة حتمية للمحاورة والجدال والمناظرة , ولعل ما نراه اليوم؛ من قطار لا يتوقف, وسيل هادر, من المؤتمرات, والندوات والاجتماعات, في نواحي العالم تبرز أهمية تفعيل الحوار.
والحوار هو عملية محاورة, بين أفراد؛ اثنين أو أكثر, يتخللها موضوع يطرحه أحدهم ويجاب عنه, وقد ينتج عنه تفريعات أخرى. ومن أثر الحوار: أن يفكر المحاور في آرائه أو يتراجع عنها أو يزداد بها وثوقاً. ولفظ الحوار لم يكن مستعملاً في تاريخنا بشكل كبير وقلما كان يستعمله علماء الأصول أو علماء الكلام بخلاف لفظ الجدل والمناظرة. قال ابن فارس حَوَرَ( الحاء, والواو, والراء) ثلاثة أصول: أحدها: لون (يعني: الحور في العين وغيرها). والآخَر: الرُّجوع والثالث: أن يدور الشيء دَوْراً. وفي القرآن الكريم أشكال وأنماط متعددة ومختلفة من الحوارات بين كافة المستويات فمن ذلك: * حوار الملائكة مع ربهم سبحانه وتعالى. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30) . * حوار الله سبحانه وتعالى مع الأنبياء والرسل. على سبيل المثال عيسى عليه السلام: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116) * حوار الله سبحانه وتعالى مع إبليس. (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(لأعراف:12) * حوار الأنبياء مع أهليهم (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:43) * حوار أهل الجنة والنار (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (لأعراف:50) * حوار الرسل مع أقوامهم وهذا كثير جداً * حوار الإنسان مع غير الإنسان كالهدهد مع سليمان عليه السلام (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل:22) * حوار الأنبياء مع الملوك والحكام والجبابرة وهذا أيضا في عشرات المواضع كما في قصة موسى عليه السلام مع فرعون. * حتى ذكر الله حوار الإنسان مع أعضائه التي تشهد عليه وتنطق يوم القيامة (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (فصلت:21) وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة متشابهة كلفظ الجدال, والمخاصمة, والمحاجة . لكن لفظ الحوار له خصوصية ومزية, وقد ورد في القرآن في ثلاثة مواضع: 1- (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34) 2- (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37) 3- (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1) ولفظ الحوار في القرآن غير مقيّد, والله عز وجل سمى فعل المرأة (مجادلة) وهي تذكر زوجها وأطفالها, ولما اشترك معها النبي صلى الله عليه وسلم سمى الفعل محاورة. ومن ألصق معاني الحوار أو الحور هو التردد والرجوع, وذلك يكون بالذات أو بالفكر ومنه «اللَّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَوَرِ بَعْدَ الكَور » أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه أو النقص في الحال بعد الزيادة. والمحاورة والحوار هي المراددة في الكلام ومنه التحاور. فالحوار فيه معنى ترداد الفكر في العقل, والأخذ والرد, وفيه معنى الاستعداد لدى الإنسان للرجوع إلى الحق إن استبان له. وهذا معنى شريف في لفظ الحوار، ولا يستلزم ذلك الرجوع من قول لآخر, لكن يحدث الإنسان نوعاً من التحوير أو التعديل أو ينظر في دقة وتحرير ما قاله. إذن الحوار فيه نوع من الرجوع, وعدم الاستئثار بالرأي دون الطرف الآخر, وفيه نوع من الملاينة في الكلام, والملاطفة, بخلاف المجادلة والمحاجة. وفيه نوع من رفع سقف المناقشة قدر الطاقة بين المتحاورين. فالحوار ليس جدالاً ولا مقارعة ولا منابذة في ميدان قتال تراق فيه دماء المتحاربين بسيوف الألفاظ النابية والفكر المعقد والمسلك المتشنج. فهناك تلازم بين الحوار والأدب, بين الحوار واللطف, بين الحوار واللغة الراقية! وهذا كله من شأنه أن يجعل الحوار يؤتي أكله, ويصل إلى أهدافه من بيان الحق, وإقناع الآخر به. لكن المشاهد في الواقع وفي وسائل الإعلام كالفضائيات, والإذاعات, والشبكة العنكبوتية وغيرها؛ يختلف تماماً عما يجب من لوازم أدب الحوار . فهناك الاستئثار, والصراخ, والعصبية, والتنابز, والازدراء, والنظرة الدونية؛ حتى يتخيل لك في بعض البرامج الحوارية أنك في حلبة مصارعة؛ أيهما يطرح الآخر أرضا بضربة قاضية!! فنحن بحق نعاني أزمة في الحوار, ترتبط بـأزمات كثيرة؛ في الفهم والتلقي والنقل والأخلاق.
وعلام يدل ذلك ؟ هذا يدل على أهمية الرجوع إلى ما يجب أن يكون عليه الحوار من وضوح في الهدف على كافة المستويات, والهدف واضح, وهو: الحق, فيجب البحث عنه, والرجوع إليه متى استبان على لسان من جاء به أيا كان, بلا تسلط, أو إحراج, أو استعراض للقدرة العقلية, أو الذهنية !! ويدل أيضا على أن الحوار من أفضل وسائل الإقناع, وتغيير الفكر الذي يعدل سلوك المحاور إلى الأفضل ،وفيه ترويض للنفوس على قبول النقد ، واحترام آراء الآخرين ... وتتجلى أهميته في دعم النمو النفسي, والتخفيف من مشاعر الكبت وتحرير النفس من الصراعات والمشاعر العدائية والمخاوف والقلق ، فأهميته تكمن في أنه وسيلة بنائية علاجية تساعد في حل كثير من المشكلات. ومن أعجب الكلمات التي ينبغي أن يوقف عندها؛ كلمة الإمام الفذ الشافعي رحمه الله, وهو من كبار أساتذة التاريخ الإسلامي, في فنون الجدل, والمناظرة, وتأصيلها فقد كان يقول ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه).
هل لنا نصيب من هذه العبارة الحكيمة, وهل يوجد اليوم أحد من الناس يقول مقالة الإمام الشافعي رحمه الله قولاً وفعلاً؟ الإمام رحمه الله قال هذه الكلمة؛ لأنه واثق أنه سيقبل الحق إن ظهر له سواء عند نفسه أو الآخر, والمشكلة هي في الطرف الآخر الذي لا يقبل الحق إلا إذا قاله هو, ولن يقبله إذا خرج من الشافعي؛ لذا تمنى أن يظهر الله الحق على لسان محاوره حتى يقبله الجميع . - هنا تلاحظ : - صفاء نفس الإمام الشافعي. - محبته لظهور الحق على لسان أي طرف خاصة لو كان المحاور. - محبته لقبول هذا الحق الذي ينبغي أن يكون هدفا. - عدم قصد الإمام الشافعي لإحراج من أمامه؛ سواء بإظهار تناقضه أو ادعاء ما ليس له أو غير ذلك. - فكرة العلو في الأرض أو التسلط على عباده غير واردة في جدول أعمال الإمام. - كان من أقواله أيضاً ( والله لقد تمنيت أن الخلق كلهم تعلموا هذا, وأنه لم ينسب إلي منه حرف واحد). أقول: فمن اتصف بمثل هذه المعاني التي اتضحت من قول الإمام الشافعي لا بد وأن يكون له نصيب من كلمته.
ثمت تساؤل مهم يلح على البعض هل يمكن الحوار والجدال في الأمورالقطعية في الإسلام, وما مجالات الجدال والمحاورة؟ الحوار والجدال لا يجوز أبداً أن يكون في القطعيات المسلم بها في الإسلام؛ كالقرآن الكريم أو أركان الإيمان, والإسلام, أو الدين الجامع, وعصمه الكبار, ومعاقده الشريفة؛ التي اجتمعت عليها الأمة, وبموجبها صارت أمة واحدة؛ كما قال الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92) . فلم يكن أمة واحدة إلا بمسلمات وقطعيات اجتمعت عليها لا تقبل الأخذ والرد. وإنما يكون الأخذ والرد, والاجتهاد, والحوار, في القضايا النظرية الفرعية, سواء في الفقه أو التاريخ أو مستجدات الواقع أو مجريات السياسة أو غير ذلك. فمن حق كل طرف أن يكون مقتنعاً بما لديه, مما قامت عليه البراهين عنده على صحته. لكن لا يمنع هذا أن يسمع الآخرين, وأن يكون مستعداً للنظر فيما عنده من مسائل وهذا معنى كلام الشافعي رحمه الله: (قولي صواب يحتمل الخطأ, وقول غيري خطأ يحتمل الصواب ). وجاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله بكتاب وقال له: هذا كتاب ألفته, وسميته كتاب (الخلاف ) فقال له الإمام أحمد: هذا حسن لكن سمِّهِ كتاب (السعة) لأنه مما وسع الله تعالى به على العباد . وفي نفس الباب كلمة الإمام مالك المشهورة ( ما منا إلا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم ). وكذلك الإمام أبو حنيفة كان يقولحرام على من لم يعلم دليلي أن يفتي بكلامي ؛ فإننا بشر, نقول القول اليوم, ونرجع عنه غداً) وهؤلاء تلامذته غيروا من بعده نحو ثلث المذهب, وهو تغيير قائم على الاجتهاد, والنظر والمحاجة, والبحث عن الحق لا بمحض التشهي. فمثل هذه المسائل والنواحي التي ذكرت هي التي يجوز فيها التحاور والنقاش الذي يدور على الأخذ والرد العلمي القائم على الدليل والبرهان وليس على الهوى, والتعنت, واللجاج, وعلو الصوت, والصراخ, والإطاحة بالآخر, وإقصائه بالحق وبالباطل.
في الحوار تبرز قضية أساس, وهي اقتران الرحمة مع المحاورة. ما منهج المناظرة والمحاورة لدى الأنبياء؟ الرحمة قضية أساس في كل شيء حتى في ذبح الحيوان «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الاِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ثُمَّ ليُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». وهي أساس في أي مبدأ, أو محاورة, بين عالم ومتعلم, أو كبير وصغير, مع كل الأطراف وعلى كل المستويات. وقد جمع الله عز وجل بين المحاورة والرحمة في صفة أنبيائه. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107) (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65) (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود:28) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وهذه الحوارات بين الأنبياء وأقوامهم مفعمة بالرحمة وروح الود؛ كما هو ظاهر. وفي الحديث الذي رواه أهل السنن أبي سعيد الخدري ، قال: قال رسول الله: «مَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ فِي الحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَشَدَّ مُجَادَلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ قَالَ: يَقُولونَ: رَبَّنَا إخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَحُجُّونَ مَعَنَا فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ قَالَ: فَيَقُولُ: ٱذْهَبُوا فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ قَالَ: فَيَأْتُونَهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ ......» وهذه مجادلة فيها إشفاق ورحمة ورغبة في إنقاذهم من النار؛ كما كانوا في الدنيا يجادلون برحمة وبلطف وأدب. قال أحمد بن حنبل : ( قلما أغضبت أحداً فقبل منك ). إن المناظرة والحوار في منهج الأنبياء تمثل مبادئ حقيقية سامية ثابتة لا خلاف عليها ولا جدل فيها. وما نقل عن بعض الأئمة من النهي عن الجدال والمناظرة والحوار؛ فهذا اجتهاد خاص؛ لظروف معينة؛ يوجهها الوقت, وطبيعة الأحداث في عصرهم؛ لكن الأصل أن الرسل عليهم السلام جاؤا بأصل لا خلاف عليه وهو المحاورة لإظهار الحق . ومن تأمل القرآن وجد كلمة ( يا قوم ) جاءت عشرات المرات على لسان الأنبياء؛ جاءت في معرض بيان الحجة وإزالة الشُبَه من أذهان المدعوين إلى الله. بل من تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة وهم كفار, ومع المنافقين في المدينة, وعلى رأسهم عبد الله ابن أبي سلول, وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاحقه بقوله: يا أبا الحباب! يا أبا الحباب! من تأمل ذلك وغيره من المواضع التي لا تحصى؛ علم الأصل جيداً. وليس هذا مرتبطاً بمرحلة استضعاف, ولا غيره, وإلا فقد تلطف مع خصومه في المدينة وهي مرحلة قوة كما تلطف في معهم في مكة . بل تلطف مع اليهود في الرد وهم يسألون عن أوَّلُ أشراط الساعة ؟ وما أولُ طعامٍ يأكلهُ أهل الجنةِ ؟ ومِن أيِّ شيءٍ يَنزعُ الولَدُ إِلى أبيهِ, ومن أيِّ شيءٍ يَنزِعُ إِلى أخوالهِ ؟ حتى أغلظ له بعضهم لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ»، قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَـيَّ، ومع ذلك حدثه النبي صلى الله عليه وسلم. فأين الحوار اليوم من هذه المعاني . إن بعضهم قد يقصيك أو يصنفك لأدنى حركة, وليس فكرة تعبر عنها مرتبطة بالدليل وهذا ناتج عن فقدان الحوار لأصل فيه وهو الرحمة مع المخالف. ولي محاضرة خفيفة بعنوان ( كيف نختلف ) ذكرت فيها ما يعالج هذا الموضوع.
ما شروط الحوار التي ترون وجوب توافرها في أي محاور كبر أو صغر قوي أو ضعف ؟ هذا الموضوع فيه تفصيل, لكن من صفات المحاور: 1- سلاسة العبارة وجودة الإلقاء وحسن العرض. 2- حسن التصور عند المحاور؛ فلا تكون الأفكار متضاربة أو مشوشة. 3- القدرة على ترتيب الأفكار وعدم التداخل. 4- العلم؛ فالبعض قد يخذل الحق في شخصه؛ لضعف علمه, وهذا يحدث كثيراً خاصة في وسائل الإعلام عندما يتحدث باسم الإسلام شخص ضعيف العلم والفهم. 5- الفهم مع العلم. 6- الإخلاص والتجرد في طلب الحق فلا يكون همه الانتصار وإنما طلب الحق كما مر معنا في الإمام الشافعي رحمه الله.
لكن هل توجز لنا آداب الحوار الصحيح عموماً؟ من آداب الحوار الصحيح: - حسن المقصد, وليس العلو في الأرض ولا الفساد. - التواضع في القول والعمل, وتجنب ما يدل على العجب والغرور والكبرياء. - حسن الاستماع والإصغاء. - الإنصاف. - البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلمات والبديهيات إذا ليس من المصلحة أن نهجم على مسائل مختلف فيها. - ترك التعصب لغير الحق. - احترام الطرف الآخر. - الموضوعية – وهو رعاية الموضوع وعدم الخروج منه إلى بنيات الطريق ومن الموضوعية التوثيق العلمي أيضا . - عدم الإلزام بما لا يلزم, أو المؤاخذة بالإلزام. - الاعتدال في كل شيء؛ في الصوت وفي الجلسة, وفي الحركات وفي سياق الحجج وفي الوقت من أول المحاورة إلى آخرها.
هل هناك تعارض بين مفهوم الولاء والبراء في الإسلام وبين الحوار أو التعامل المصلحي؟ هناك نقاط مهمة في هذا الجانب منها: - لا تعارض مطلقاً بين الولاء والبراء وبين الحوار. - أعظم سورة ذكرت الولاء والبراء هي سورة الممتحنة وهي مدنية. (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: هذا من حيث الأصل إجماع. لكن حتى الكفار المحاربون يقول فيهم : (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:7) فلا يعتقد أن أحداً لن يهتدي فالله قدير, وكثير ممن حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وغيرها تحولوا إلى أنصار وأعوان وحملة لهذا الدين ودعوته. وكما أسلفت فإن من تأمل تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش في مكة واليهود في المدينة؛ أدرك أن لا تعارض أبداً بين الحوار والمجادلة والتعامل المادي المصلحي من جهة وبين البراء مما عليه الكفار والمشركون من أنواع الضلالات والانحرافات والمخالفات . - ومن العجيب أنه سألني بعض طلبة العلم : وكانوا مسافرين إلى إفريقيا لذبح الأضاحي وقابلتهم في الطائرة – سألني : هل يجور أن أبتسم في وجه الكافر ؟!! - هل يجوز أن أصافحه؟!! - هل يجوز أن أجلس معه في مكان واحد ؟!! قلت له: سبحان الله ... وهل في المسألة خلاف؟ إذاً: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل قريشاً وأشياخ الوثنية بمكة؟ واليهود وأهل الشرك بالمدينة؟ وهل يمكن أن تقوم دعوة إلا على الخلق الحسن والتواصل مع الآخرين؟!
هل الحوار يعني الذوبان والتمهيد إلى التحول كلية عن الحق؟ يتصور البعض أن الحوار يعني ذوباناً أو تحولاً , والصحيح هو العكس تماماً فالحوار لغة الأقوياء وهو علامة قوة وثقة بالنفس بما لدى الإنسان من ثوابت ومسلمات, والحوار دلالة أكيدة على أن المحاور على بصيرة من أمره فهو : 1- من أقوى رسائل الدعوة والتبشير بهذا الدين. 2- الحوار يزيل الصورة الضبابية للأمور ويجليها ويحولها من الغموض والتعقيد إلى الوضوح والسهوله والفهم والدقة. وفي معرض ذكر الاختلاف والتنوع بين الناس يقول تعالى : )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) قال سبحانه " لتعارفوا " ولم يقل لتعاركوا؛ فالأصل التعارف في كل شيء اسماً وشخصاً وثقافة وتاريخاً وعملاً وموقفا وكتاباً ودراسات بحيث يكون الحديث عن وعي وبصيرة. 3- كثيراً ما يوقف الحوار أنواعاً من الصدامات التي لا حاجة لها ولا داعي إليها. وإذا كان الجهاد فريضة قائمة إلى قيام الساعة وماضية أيضاً, وهذا معنى متواتر وهو مرتبط بخلود هذه الأمة, واستعدادها للصبر والمقاومة, وهو من المعاني التي تميز هذه الأمة, وربما لولا المقاومة فيفلسطين والعراق وغيرها لكان وضع الأمة أسوأ مما هي عليه . لكن الجهاد صورة واحدة فقط, وقد أجمع الفقهاء واتفقوا على الهدنة والصلح, واتفقوا قبل ذلك على دعوة الإمام لمن أراد أن يغزوهم فيجب عليه الدعوة للإسلام أولاً وَإذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكينَ فٱدْعُهُمْ إلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ «أَوْ خِلاَلٍ» فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجابُوكَ فَٱقْبَلْ مِنهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ... » الأولى: الدعوة إلى الإسلام ، والثانية: الدعوة إلى أداء الجزية, والثالثة: فَٱسْتَعِنْ بِٱلله وَقَاتِلْهُمْ . والخطاب هنا ليس لآحاد البشر بل هو خاص بالجيش الغازي. أما أمور العلاقة الفردية بين المسلم وغير المسلم فهي أبعد من هذا, ولها أفاق ومجالات, وهذه معان محكمة لا جدل فيها ومع ذلك يكون فيها كثير من الضبابية وعدم الوضوح. 4- الحوار يوصل إلى المصالح المشتركة, فقد تجد قسمة مشتركة بينك وبين الآخر كالدين الجامع ومواطن الإجماع والاتفاق والمحكمات من الكتاب والسنة وأصول الإسلام والإيمان والأخلاق وغير ذلك. فهذه قسمة مشتركة بين المسلمين جميعاً يجب أن ينطلقوا منها ويصدروا عنها. ومن القواسم المشتركة " المصلحة الجامعة) وهي المصلحة العامة التي أجمع عليها العلماء, كما يقول ابن تيمية, والغزالي, والشافعي وغيرهم. وهي أن الدين جاء لتحصيل المصالح ودفع المفاسد . وقد رهن النبي الله عليه وسلم درعه عند يهودي لطعام اشتراه والحديث في البخاري .. والبيع والشراء فيه مصلحة لليهودي ولم يغب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالسعي يكون لما فيه مصلحة لك ولو تعلق بمصلحة للآخرين, فليس الرشاد هو السعي في حرمان الآخرين من مصالحهم, بل الحكمة أن نسعى في مصالحنا ولو ترتب عليها مصالح لغيرنا, والله أعلم. | |
|