أصيب صالح فقلّت التوابيت (مروان الغفوري) شارك22
16/6/2011 - الصحوة نت - خاص
كتبت على صفحتي في الفيس بوك قبل أيام: قد يعود صالح من منفاه في السعودية، إذا لم تجر عملية سياسية كبيرة تقنعه بالبقاء، وبأن جمهورية أبنائه قد سقطت وقامت على أنقاضها جمهورية الجماهير. لكنه، فيما لو عاد، فمن غير المستبعد أن تكون عودته شبيهة بحالة بطل الروائي محمد عبد الولي في قصته الشهيرة "ليته لم يعُد". لقد حمله رجال القرية، قادماً من الغربة، على نقالة موتى في ملفات الجبل. استقر في غرفته القديمة، في منزله، هيكلاً بل حركة. عيناه تسمّرتا في السقف، لكنه لم يمت. أغمضت زوجته عيناها وتاهت. كانت تقول لنفسها بخيبة قاتلة: ليته لم يعُد. ليته لم يعُد.
اختار صالح، كعادته، طريق الضجيج والرصاص. وصل إلى السلطة يدوس بقدميه أشلاء سلفه الغشمي، على إثر عبوّة انفجارية شبيهة بتلك التي انفجرت في وجهه بعد 33 عاماً من مقتل رفيقه الغشمي. الغشمي فضل أن ينتحر وحيداً، لكن صالح انتحر على طريقته: معاً أفضل جدّاً. لقد حبس كل فريقه معه، وقرر أن ينتحروا معاً دون الإصغاء لاختياراتهم الشخصية. كانت تعليماته للأمن القومي: امنعوا سفر أي مسؤول حكومي. أما محافظ تعز، الصوفي، فقد فبرك تقريراً طبياً من المستشفى الجمهوري في تعز، مدفوعاً بمقولة "انجُ سعد فقد هلك سعيد". قال صالح لعبدالباري عطوان، محرر القدس العربي، أنه حصل على السلطة بالجنبية، ولن تنتزع منه سوى بالجنبية. قال لنا: لم آت إلى السلطة على ظهر دبابة. كالعادة، كذب في الحالين. فهو حصل على السلطة عبر مفخخات، وليس جنبية. أما وصوله إلى القصر الرئاسي فقد كان عبر طائرة عسكرية سعودية نقلته إلى صنعاء، وليس دبابة بالطبع، كما يذكر وزير خارجيته الأسبق عبد الله الأصنج.
كتبتُ قبل ثلاثة أشهر"انتهى الدرس يا غبي" فعلّق صديقي أحمد زكي: الرجل لم يفهم حتى الساعة أن هناك درساً من الأساس. ليس في صالح مفاجأة. اللواء علي محسن الأحمر يتحدث لصحيفة الحياة قبل أسبوع. يقول أنه تحدث إلى صالح قبل حادثة جمعة الكرامة، 18 مارس، بأيام قليلة. أي بعد مرور قرابة شهرين على خروج أولى طلائع الثورة من أمام جامعة صنعاء. قال صالح للواء محسن: إنهم يريدونني أن أقيل أبنائي! من المتوقّع أن صالح قالها على طريقة آرثر ميللر، المسرحي الأميركي الشهير، في نصّه: كلهم أبنائي! حتى تلك اللحظة فإن كل ما فهمه صالح من موضوعة الثورة هو أن خروج الجماهير، بذلك الزخم الكوني، لم يكن أكثر من عريضة مهذبة تهدِف إلى إقصاء يحيى وطارق عن الأمن والقوات الخاصة. فيما بعد عرف صالح ما اعتقد أنه حقيقة ما تريده الثورة. وهكذا بادر إلى تقديم اقتراح أن يرعى شخصياً مسوّدة اتفاق بين اللقاء المشترك والمؤتمر الحاكم، في واحدة من النسخ الخمس للمبادرة الخليجية. علّق الصديق غمدان اليوسفي: كأن الملايين خرجت إلى الشوارع تطالب برحيل البركاني.
وعندما لم يفهم صالح شيئاً بالمرّة، طلع على الشاشة على طريقة تجار المخدرات في تشيلي والمكسيك: أحملهم مسؤولية الدماء التي زُفِكت، والدماء سوف تزفك. صالح لا يعرف إنها بالسين وليس الزاي. فهو، كما وصفه بيان المجلس العسكري المؤيد للثورة، الجاهل الأمّي. وفي عمل وثائقي بديع، يتحدث فيه عبد الرقيب الشرجبي وإبراهيم الجهمي وعبد الملك منصور، عن سيرة صالح، منشور على اليوتيوب، يقول المعلّق: بدأ صالح حياته في رعي الأغنام. وبالطبع، فإنّ حاصل جمع الأمّية ورعي الأغنام لا يخلق سيرة ذاتية جديرة بتبوء منصب "سادس الخلفاء الراشدين" التي منحها صالح في ميدان السبعين. من المناسب أن نتذّكر أن أحد تنابلة صالح شرَع بكتابة سيرته الذاتية، قبل سنوات. كان قد ابتدأها بعبارة: ولد صالح في ليلة لا تنبُح فيها الكلاب. يفهم، بالطبع، من ذلك أن صالح ولد في ليلة "يفرق فيها كل أمرٍ حكيم"! لكن صاحب السيرة الذاتية لم يكمل كتابتها لأنه ربما حصل على معلومات تفيد بأن بعض الكلاب نبحت في تلك الليلة.
يوماً ما حصل صالح على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة سيول، كوريا الجنوبية. لا يمكنني تخيل هذا العنوان: الدكتور علي عبد الله صالح، كما كان يمازحني الصديق المثقف عبد الله مهيوب: هل سمعت التصريح الأخير للدكتور صالح؟ قال لي أحد الأصدقاء: عادي! فقد منحت جامعة هولندية حماراً هولندياً، قبل سنوات، درجة الدكتوراه لأنه أنقذ الجامعة من الحريق. بالنسبة لي، لست مهتّماً بمعرفة ما الذي فعله الحمار لينقذ الجامعة من الحريق. لقد فهمت أموراً أخرى كثيرة من هذه الحادثة مثلما تفعلون أنتم الآن. هل تتذكرون "كارثة" الغاز الذي باعته اليمن إلى كوريا الجنوبية؟ لقد فعل صالح لكوريا الجنوبية أكثر مما فعله حمار هولندا، وبالتأكيد فكلاهما يستحق الدكتوراه الفخرية!
في عام 1999 التقيتُ موظفاً في رئاسة الجمهورية. علمتُ منه أنه قدم إلى مصر لإنجاز بحث الماجستير، وأنه يفضّل أن يكون البحث حول "عبقرية صناعة القرار لدى فخامة الرئيس صالح". ربما طرأ على العنوان الكثير من التعديل، بفعل تدخل المشرفين، لكن ما تأكدتُ منه بعد ذلك بزمن هو أن الرجل نال بالفعل درجة المجستير في بداية العام 2011! لقد كانت فترة طويلة تلك التي قضاها وهو ينقب عن عبقرية صالح في عتبات العدم. لكنه، كما يؤكد أصدقاء، ربما اضطر بعد ذلك لفبركة ملامح عبقرية "عشان يخلّص شغله ويرجع يأكل عيش". عندما تصل القصص الخبرية إلى هذا المستوى من الشد، والهيافة، يفضّل الصديق ناصر يحيى الكتابة هكذا: عبقرية صالح؟ منين يا حسرة!
هذه ليست صفحة لهجاء صالح. أنا فقط أكتب في الهامش. يوجد من يقول أن الثورة سقطت أخلاقياً عندما احتفلت بإصابة صالح. في الواقع لم يحتفل أحد لإصابة صالح، بل لنجاة مساكين يستنزف صالح عبر أدواته وأجهزته دمهم وأرواحهم. لم يرقص أحد لاحتمال وفاة صالح، بل لاحتمال حياة ألوف من البشر فيما لو اختفى صالح. كانت رقصة حياة وليست رقصة موت تلك التي اجتاحت المدن والقرى. بالنسبة للجيل الجديد، فقد تأكد أن صالح هو معادلة موت. كما أن فناءه – بأي طريقة لا تلوث يد الثورة- هو أول الدرب إلى الحياة. صالح تابوت متحرّك لا يكف عن اختطاف الأرواح ودفن الأجساد. عندما قيل أنه خرج من العناية المركزة سقط الرصاص على حوالي 500 مواطن يمني، وقتل العشرات. لا يعلم أحد على جهة اليقين كم من الناس سيموتون عندما يغادر صالح المستشفى، ولا حجم المجازر التي تنتظره في صنعاء. إن صالح، في كل لحظة، يحضر بوصفه نقيضاً للسعادة، ومناهضاً للحياة. الثورة ليست معنيّة بحياة صالح، الشخص، ولا بموته. ما يعني الثورة هو صالح الموضوع وليس صالح الذات. صالح القصة الطويلة المهلكة، وليس صالح الشخص الذي "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق". رقص الثوار لمغادرة صالح إلى الرياض فتأكد التالي: منذ رحيله انخفض عدد التوابيت، وتوقفت المشافي عن أن تكون جنائز، وكفّت المراثي عن الخروج. لذلك رقص الثوّار، ونحروا الذبائح. حاول البعض أن يسخر من "طريقة التعبير عن الفرَح" بحسبانها تنتمي إلى عصور سحيقة. تقمصوا لغة معاصرة لم تفصح سوى عن أمر واحد: إن هؤلاء المعاصرين معزولون تماماً عن عصرهم، وليس لديهم أدنى فكرة عن فلكلوريات شعوب العالم، كل العالم، في التعبير عن مواقفها ومناسباتها. الثورة لا تتشفى، كما يبسّط بعض المساكين، بجراح صالح ورفاقه. لقد كنست الثورة كل ذلك "الطابور الأنيق المليء بالقتلة" منذ أن وضعت أول قدم أمام جامعة صنعاء. وفيما إذا كانت حظوظهم ستضع الستارة على حياتهم عبر متفجرات أو رحلات درجة أولى فهذه اختياراتهم الخاصة، التي قدّموا لها وعكفوا على صياغتها. إنه أمر لا يعنينا. بدلاً عن هجاء احتفال الثورة بغياب صالح، وتصوير الأمر كما لو كان بربرية محضة، أرجو أن ينشغل أصحاب هذه البكائيات المدبّبة بمتابعة مصير أكثر من 100 جريح سقطوا مع صالح، لم يأبه لهُم أحد. لا يذكرهم الإعلام الرسمي سوى على شكل أرقام مجوّفة بلا محتوى. كأنهم لم يكونوا بشراً مخلصين، سيّجوا نظام صالح ومنحوه حياة ليست له. الثورة احتفلت لأن صالح اختفى، ولا يعني الثورة كثيراً تلك الطريقة التي اختارها صالح لكي تكون طاقية الإخفاء. أما تنابلته فقد داسوا على دم وإنسانية وأحزان كل فريقه الذي أصيب معه، وتذكروا فقط جريحاً واحداً: فخامة الأخ الرئيس. بالنسبة للبقية، فقد كانوا هُناك، وهذا كل ما يمثلونه لنظام الموت والخطيئة والتحطيم. أعني: ذلك النظام الذي تحتفل الثورة بانهياره.