بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم / صالح علي محمد الجبني
السيـــد ... حياة فقيد وفاجعة وطن
كغيره من عباد الرحمن فقد قرر خالقه سبحانه وتعالى أن يستدعيه إلى جواره ، ولكن هذا القرار الإلهي الذي لا اعتراض عليه كان بمثابة الصاعقة الشديدة والفاجعة الكبيرة التي اهتزت منها أرجاء مديرية جبن بل إنها جعلت بقاع واسعة من أرضنا اليمنية وكثيرا من دول المهجر والاغتراب لأبناء مديرية جبن تعيش حالة حزن كئيبة أدمعت منها أعين كل من يعرفون فقيدنا حتى اعتصرت قلوبهم وتمزقت أحشاءهم ألما وحزنا لفراق رجلا عظيما وإنسانا نادرا قلما نجده في زمننا هذا.
الرياضيون والشباب لحظة فقدوا الأمل بالنجاح في غياب
قائدهم ، والتربويون خارت قواهم وتراجع
عطاءهم دون مشاركة زميلهم ، والطلاب
امتلكتهم الحيرة والحسرة وأحسوا بالضعف لفراق معلمهم
وقدوتهم ، والسياسيون شعروا بفراغ شديد خلفه رحيل من يطرحون عليه ويناقشون معه قضاياهم الوطنية المختلفة ويستلهمون من تجربته الآراء والحلول المنطقية ويستفيدون من وضوح رؤيته المنحازة دوما إلى جانب مصلحة الوطن والمواطن ، المجتمع برمته وكافة شرائحه الاجتماعية ومنظماته السياسية والمدنية ومرافقه الرسمية والشعبية وجميع مكوناته من الأطفال والشباب والشيوخ رجالاً ونساء جميعهم أصيبوا بحالة من الذهول الشديد جراء الفاجعة التي عصفت بهم دون سابق إنذار انتزعت من بينهم أعز رجلا عرفوه وأصدق صديق عايشوه.
في ليلة هي الأشد عتمة وظلمة في تاريخ حياتنا . إنها ليلة الخميس 6/1/2011م حين تركنا أخينا وصديقنا ومعلمنا الفاضل السيد عبد الباري علي عبد الدائم الجيلاني أو كما كنا نحب أن ندعوه بـ ( السيد ) ، هي ليلة من أطول وأقسى ليالي عمرنا ، ولحظة انتشار خبر رحيله لم تكن إلا أسوء لحظة في حياتنا ، ما إن وقع الحادث حتى استيقظ الجميع وتهافت الناس إلى منزله حينها لم يجدوه فلحقوا به إلى المستوصف الذي نقل إليه ولم يجدوه أيضا فانطلقوا مسرعين بسياراتهم وراءه باتجاه المستشفى الذي أسعف إليه ، لحقوا به والدمع يفيض من أعينهم والابتهال إلى الله لم يفارق ألسنتهم بالدعاء لشفائه ونجاته ، الكثير منهم إن لم يكن جميعهم كان الأمل يحذوهم إن يجدوه وفيه رمق من الحياة ولشدة محبتهم له وقوة احترامهم لشخصه ووفاء وإخلاصا لذاته وتضحية منهم في سبيل بقاءه معهم كانوا على استعداد لاقتسام بقية سنين حياتهم معه أو اقتطاع أجزاء من أجسادهم ليهبوها لجسده الطاهر كي يواصل العيش بينهم _ ولكن في منتصف الطريق كان قرار الخالق عز وجل قد تم تنفيذه دون رجعة فيه ليرحل بموجبه فقيدنا العزيز وأستاذنا الفاضل وقدوتنا
الطاهر عبد الباري ( السيد ) إلى جوار ربه بعد أن قضى
قرابة الـ 45 عاما هي سنين حياته الحافلة بالكثير
والكثير من الخير والعطاء والانجاز والتضحية .
رحل عنا بعد عمر قصير ليترك لدينا حملا ثقيلا من مآثره وصفاته وأخلاقه وتفانيه وحبه وإخلاصه ووفاءه وصدقه وزهده وشجاعته واستقامته وكثيرا من فضائله الكريمة وسماته الحسنة التي لم ولن نستطيع إن نتناولها أو نقرأها في هذه السطور المحدودة _ فبالرغم من عدد أيام عمره القليلة غير أنها كانت مليئة ومكتظة بالإعمال الخيرية الكثيرة إذا تحدثنا عنا بإسهاب وموضوعية فان عدد أيامها مفتوحة ولن نصل إلى نهايتها حتى تفنى ما بقي من أعمارنا.
لم يكن فقيدنا الغالي جاهلا في رؤيته لواقعه أو متخلفا ومتأخرا عن أداء واجبه نحو مجتمعه ووطنه ، ولم يكن أيضا قاصرا في تحمل مسؤولياته أو لاهثا وراء مغريات دنيته ، بل كان مدركا لأهمية وجوده في هذه الحياة مستوعبا قيمته الخلافية على هذه الأرض ، عكس تلك الأهمية لقيمته الإنسانية بترجمة حقيقية في جملة من أعماله ونشاطاته ومشاركاته الفعالة في شتى المجالات الحياتية التي بدأها منذ نعومة أظافره في مجال الرياضة التي أبدع فيها حتى كان له شرف تمثيل شباب المديرية أمام شباب المحافظات الأخرى وكان لنا حق الافتخار بهذا التمثيل ، ومن ثم تسلسل دوره الريادي بوضوح واخذ ينموا هذا الدور مع نمو سنين عمره ليضع بصمات قوية في الجانب الايجابي لواقع مجتمعه كقوة جسده - تميز بها عنا جميعا زملاء سيرته وشركاء صداقته وأخوة دربه - فكان للجانب التربوي والتعليمي الجزء الأكبر من حياته قدم لها وفيها جل إبداعاته واجتهاداته التي تركت أثرا ايجابيا كبيرا لدى مفاهيم طلابه ومتعلميه وحتى زملاءه طبعها ورسخها في عقولهم بثقافته المستقيمة بالدين ، المتوجة بالوطنية العروبية ، المذهبة بصدقه وإخلاصه ووفاءه وتفانيه لخدمة الآخرين - وظهر ذلك جليا أثناء توليه رئاسة لجنة الشئون الاجتماعية بالهيئة الإدارية للمجلس المحلي بمديرية جبن المترافقة مع مسؤوليته أمانة سر التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري - منطقة جبن – إلى جانب قيامه في نفس الفترة برئاسة نادي شباب جبن ومن خلالها أي ( قيادة تلك المسؤوليات ) كان حبه وتعاطفه وتقديم خدماته قد شملت جميع أبناء المديرية دون استثناء أو تميز وخصوصا منهم أولئك الضعفاء والبسطاء من المواطنين والمحتاجين وواجه بنزاهة وشرف مسؤوليته كل أنواع الظلم والفساد فكان مع الحق ضد الباطل وناصرا للضعيف قبل القوي ومعينا للفقير قبل الغني ، ولم يخش أي كان إلا الله سبحانه وتعالى حتى غدا نموذجا رائعا وفريدا يحتذى به أثناء إدارته تلك المسؤولية بكفاءة واقتدار ونزاهة لشرف المهنة ، لم يكن يوما من الأيام متعصبا بحماقة لإنتماءه الحزبي أو السياسي ، ولم يستغل مسؤوليته بطريقة سلبية أو مصلحة لشخصه إطلاقا حتى انتهت دورته الانتخابية الأولى للمجالس المحلية حينها عاد مكللا بالحب والاحترام والتقدير إلى الحقل الذي ترعرع فيه وتربى عليه - التربية والتعليم - معلما كفؤا وقائدا فذا وأبا صالحا وأخا رحيما وصديقا صادقا وقدوة فاضلة حتى رحيله مساء يوم الأربعاء 5/1/2011م لتشيعه آلاف من محبيه والعيون تذرف الدمع عليه إلى مثواه الأخير صباح يوم الخميس 6/1/2011م .
رحل عنا بعد إن كان آخر يوم من حياته حافلا بعطائه مجسدا لثقافته وتسامحه معبرا عن قيمه ومبادئه ، تطّهر فيه قلبه وجسده من أدنى شك كان يساور عقله بالتسامح مع من كان يشك أنه أخطأ في حقه أو قصر في خدمته بعد أداء واجبه التدريس في مدرسة زينة للبنات التي افتقدته بشده. ولم ينسى زيارة من استلهم وورث عنهم صفات الفضيلة والطهر والنقاء وخصال الرحمة والود والوفاء فذهب إلى المقبرة التي ووري جثمانه فيها ليقرأ الفاتحة وآيات من القرآن الكريم على أرواح والديه ويتلذذ بالدعاء لهم ثم ليقضي بقية يومه الأخير بين جميع أفراد أسرته وكأنه يودعهم الوداع الأخير ويخبرهم عبر شعوره اللا إرادي - شعور المؤمن القوي - الذي أوحى إليه أن هذه الساعات هي أخر ساعاته في الحياة.
رحل عنا أستاذنا الفاضل عبد الباري ( السيد ) بعد أن كان رجلا غيورا على دينه ووطنه، ناصريا قوميا عربيا مسلما، رياضيا ممتعا ومستمتعا بقدراته ومهاراته العالية ، معلما معتزا بمهنته وقداسة رسالته ونبل أهدافها السامية . مسئولا وراعيا محافظا على أمانة خلافته الإلهية في الأرض.
رحل عنا أخينا وحبيبنا قائد مجموعتنا عبد الباري ( السيد ) وقد ترك لنا وفينا إرثا عظيما وثروة كبيرة وكنزا وفيرا غاليا تمثل مجموعة فريدة من القيم والمبادئ والسلوكيات والأعمال الفاضلة الحميدة التي استحق بها ومنها درجة الامتياز مع مرتبة الشرف { إنسان من الدرجة الأولى } لأنه تعلم وعلم قبل أن ينال شهادته التربوية الورقية ، وقدم وضحى قبل أن يفكر بالأخذ أو المقابل سوى رضاء الله ومحبة الناس له وراحة ضميره .
مقتطفات من رثاء الأعزاء
بكيت ولم يشفع بكائي *** لعودة خل قد فارق حياتي
بظلمة ليل أفزعني منامي *** وجفن العين مفتوح يعاني
رحيل العبد مربوط بباري *** وسيد كان في الدنيا زميلي
وفاته صاعقة أدمت فؤادي *** ونيرانا تلظت في حِشائي
وكادت أدمعي تصبح ردائي *** لتكسوا الجسم من دون الثيابِ
رثاءك يكتفي بالقلب حزني *** وقد كان الأمل أن لا تكون مرثي
جبن أضحت على الأطلال تبكي *** وتلهث بالدعاء ولك تناجي
أيا رب العباد أخذت مني *** عزيزا كان في الدنيا رفيقي
ترفق فيه بعد الموت ربي *** وأسكنه الجنان واللبس الحريري
سلام أنت فيك الحب زادي *** وفيك الخير نأكل منه قوتي
بأيام الطفولة كنت ظلي *** وفي عز الشباب أنرت دربي
وفي كل المسارات أنت خلي *** وفي وقت الشدائد كنت زندي
أيا سيد بحقٍ أنت سيدي *** وسيد ابن سيد يا شقيقي
على العهد أنت باقٍ في ضميري *** وحبل العهد مشدود بعنقي
صديق الصدق يا من كنت رمزي *** ستبقى خالدا في ذكرياتي
ستبقى في حياتي أو مماتي *** وحتى ألقاك في الظل ألظليلِ
رسالة حب وشوق واعتذار
أخي وحبيبي عبد الباري . اعتذر منك بشدة لتأخري عن الكتابة حول فضائلك وأخلاقك وسمات صفاتك وملاحم نضالك في هذه الحياة القاسية ظروفها والمبعثرة فيها أوراق مستقبلها . وهذا التأخر لم يكن نتيجة طبيعية وإنما كان ناتجا عن الصدمة الشديدة التي أفقدتني الوعي والتفكير والفاجعة القوية المدوية التي أقعدتني الفراش والسرير لأيام ليست بالقليل - ففراقك لم يكن بسيطا وغيابك لم ولن يكون سهلا علينا ، ولكنها مشيئة الله التي حكمت علينا بالبقاء دونك في هذه الحياة الموعودة بالفناء مصحوبة سنين عمرنا بالحزن الشديد وألم فراقك المحكوم بإرادة الله سبحانه وتعالى التي نعجز عن مواجهتها أو رفضها أو حتى التشكيك من إيماننا بها ، ولا نستطيع إلا أن نقول الحمد لله كثيرا والشكر والثناء له دائما على ما أصابنا فيك من حق وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فلك مني كل الحب ولهامتك كل التقدير ولقيمك ومبادئك كل الاحترام والتبجيل - فالشوق يزداد إليك كلما زادت أيام غيابك عنا.
كما أستميحك عذرا أن تغفر لي أخطاء ربما وردت أو لم ترد في ثنايا سطور رثائي ، لأنك تعلم وأنا مؤمن بعلمك هذا أن ما تمثله أنت من قيمة حقيقية نادرة سكنت وشغلت حيزا كبيرا جدا من كياني ووجداني ، وما هذا الرثاء إلا تعبيرا صادقا عن تلك المكانة الرفيعة التي تربعت بها على عرش أفكاري ومشاعري ، وهي أيضا انعكاس لما خلفه فراقك وأحدثه موتك من جراح مؤلمة وعميقة أوقفت وأبعدت كل مظاهر البهجة والفرحة من أمام ناظري لما بقي من سنين عمري بعد رحيلك القاسي.
وعليك أن تدرك وتعلم أنه مهما كتب الكتاب وتحدث الفصحاء والخطباء وأبدع المثقفون والأدباء وناقش السياسيون الفرقاء وعبر الطلاب الأوفياء ومعلموهم النبلاء والرياضيون الأكفاء عن سيرة حياتك ومستوى علاقاتك وسلاسة معاملاتك ودماثة أخلاقك وطهر قلبك ونبل أهدافك ورقي تفكيرك وسمو ورفعة معتقداتك وثقافتك وصلابة شجاعتك ورفق طباعك وما تمتعت به من رجولة وشهامة وإخلاصا ووفاء وكثيرا من تلك الصفات الإنسانية فإنهم لن يستطيعوا الوفاء بحقك أو الوصول إلى نقطة نهاية بوجود حياتك ومسيرة نضالك المهنية والشعبية والرسمية والاجتماعية . وطبيعي فان أيام دنياك كانت قليلة وقصيرة ولكنها حقا كانت طويلة وممتدة إلى مالا نهاية بانجازاتك وأعمالك المتناثر خيراتها وبصماتها في شتى مجالات حياتنا
ولعلني أذكرك وأتذكر معك تلك الأيام والليالي التي جمعتنا سويا منفردين ومجتمعين مع بقية الزملاء والتي من خلالها التصقت حياتنا وتوطدت صداقتنا وانبلجت علاقاتنا الأخوية المبنية على الحب والوفاء ، تعلمنا فيها أبجديات الوطنية وبدايات حروف التضحية ، وقرأنا من كتبها جملا مفيدة أثرت حياتنا المهنية الطويلة . اقتسمنا فيها كل ما هو جميل وممتع وتقاسمنا أيضا فيها كل الجراح والمعاناة، ضحكتنا وبكاءنا أفراحنا وأحزاننا اجتمعنا عليها وفيها سويا - فقد أغنيتنا بغنى النفس وأشبعتنا من مائدة الزهد والعطاء - فلك منا التحية ولك منا أجمل هدية فاتحة القرآن وحفظ الوصية.
ولتطمئن فالرحمة والمغفرة حاضرة دعاء صلواتنا لك ، والجنة بنعيمها مطلبنا بسؤال الخالق جل وعلا إن تكون مكافأتك وجائزتك نظير أعمالك وحسناتك.
اللهم اجعله في ظلٍ ممدود وماءٍ مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وارزقه جنة الخلد يا رب العالمين
آمين . آمين . آمين
صالح علي محمد الجبني
12 / 1 /2011م
وتحياتي لكل الشرفاء اخوكم /ابراهيم الذرحاني