الدستور عقد اجتماعي لجميع أبناء الشعب حاكمهم ومحكومهم، وقد ناضل اليمنيون منذ أربعينيات القرن العشرين المنصرم من أجل دستور يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يمنع تسلط الفرد، ويلغي قداسة السلطان: إماما كان أو رئيسا، وعبر رحلة طويلة قدم فيها الشعب تضحيات بأغلى ما يملك من أجل أن يعيش حرا كريما، ولم يبخل الأحرار بحريتهم ودمائهم ومصالحهم وانتظموا في قطار الفداء والنضال لا يخشون في الحق صولة الظالمين ولا ضعف المتخاذلين، رحلة مضى فيها المطاع والمشوكي والحورش والعنسي والزبيري والنعمان والحكيمي والأحمر، وكثيرون تصدروا لمقاومة الطغيان والظلم حتى نجحت الثورة وتحرر الجنوب وتحققت الوحدة اليمنية.
كان لا يزال- لدى اليمنيين توجس وخوف من الاستبداد وتسلط الفرد، الذي مهما كان ذكاؤه وورعه وصلاحه ووطنيته فإنه بشر يطغى حين يشعر بالاستغناء، ويبطر حين يمتلك القوة، ويستأثر عندما تتهيأ له الظروف، لذلك فإنهم قد حرصوا في كل الدساتير التي توافقوا عليها- قبل الوحدة وبعدها، في الشمال والجنوب- على أن تكون قيادة البلاد جماعية (مجلس جمهوري- مجلس رئاسة)، وأن ينضبط أداء السلطة التنفيذية بمجلس نيابي يراقب ويحاسب ويسن التشريعات التي تحافظ على مصالح الشعب وحقوق أفراده وحرياتهم، ورغم أن هذه الاحتياطات لم تمنع تسلط الفرد واستئثاره إلا أنها ما زالت تكبح جماح الطغيان، وتفتح الأمل بأن يصلح الغد ما أفسده الأمس، لأن طريق التغيير سالكا أمام الجميع.
بعد حرب صيف 1994م تم تعديل الدستور وألغى مجلس الرئاسة مقابل تحديد مدة الرئاسة بدورتين فقط، وجاء تعديل 2001م ليضعف وينتقص من صلاحيات مجلس النواب لصالح توسيع سلطة رئيس الجمهورية والحكومة الأمر الذي أدى إلى اضطرابات واختلالات لم تتوقف، وارتفعت الأصوات بضرورة إجراء إصلاحات سياسية تعيد الأمور إلى نصابها، وتعالج الأسباب التي أدت إلى تهديد الوحدة الوطنية وإشعال نيران الغضب في كل أنحاء البلاد.
لكن اليمنيين اليوم- بعد تلك الرحلة الشاقة من النضال- يعيشون مشهدا محزنا ينسف كل مكاسبهم ويسد أبواب الأمل في وجوههم، ويتنكر لتضحيات الثوار والأحرار عبر أكثر من ستين عاما، بالنكوص والعودة إلى تعميق سلطة الفرد والعائلة، وإلغاء مبدأ التداول السلمي للسلطة بتأييد كرسي الرئاسة اليوم، وتوريثه غدا، وتحويل الدستور من دستور للشعب والدولة إلى دستور للحزب الحاكم فقط!!
من أجل قلع العداد الذي يحدد دورتين فقط لرئيس الجمهورية تقدم المؤتمر الشعبي العام بطلب تهشيم الدستور والعبث به، وبدون أي حوار مع القوى السياسية الفاعلة، وحتى يتم حذف جملة من المادة (112) هي: (ولا يجوز لأي شخص تولي منصب الرئيس لأكثر من دورتين) جاء التعديل لستين مادة في الدستور مع رتوش تعمق الاستبداد، وتمنح مجلس الشورى صلاحية التشريع مع حصر انتخابه على المجالس المحلية التي يسيطر عليها حزب المؤتمر الشعبي، وبإرضاء الخارج بكوتا نسائية أحيلت على القانون، وإبقاء مشكلة الحكم المحلي في إطار التحكم المركزي بمسمى واسع الصلاحيات وكالعادة يتم الإخراج لهذه الفوضى العارمة في أسوأ صورة: فتسلم لأعضاء مجلس النواب من كتلة المؤتمر ورقة بيضاء يوقعون عليها ولا يدرون على ماذا وقعوا، ومن هذا حاله لا غرابة أن يصوت على ما لا يقتنع به، أو يُصوت عنه، ويعلن رئيس المجلس من فوق المنصة أن لديه طلبا من رئيس الجمهورية بتعديلات دستورية ويلوح بورقة يتيمة في يده، وبعد قليل يستدرك بأن الطلب ليس من الرئيس وإنما من كتلة المؤتمر!! كان ذلك يوم الأربعاء، ويوم السبت تتحول الورقة إلى ملزمة وشرع الحاضرون في مناقشتها دون مرور 72 ساعة حسب اللائحة، ويزعمون أنهم قد وافقوا على إحالتها إلى لجنة خاصة نداء بالاسم، مكتفين بموافقة قارئي الأسماء بينما لم يتجاوز الموافقون سبعين عضواً، ولم يؤخذ بأي من الآراء التي عارضت ونصحت، وهناك حزمة أخرى من نسف مواد الدستور سيقوم بها لاحقاً، وهنا عرفنا لماذا لا يريد الحزب الحاكم الحوار، ولماذا يخشى الرأي الآخر لأن هذا الجنوح لا يمكن أن يقبل به عاقل!!
ليس بيننا وبين رئيس الجمهورية خلافات شخصية، لكنه رضي أن يحاصر نفسه من رئيس لكل اليمنيين إلى رئيس فقط لحزب المؤتمر، ثم إلى رئيس مجموعة من المتنفذين الذين أساءوا إليه وإلى اليمن وعبثوا بالثروات والمؤسسات وأكلوا الأخضر واليابس، ولم يعد يسمع شكوى المظلومين ولا أنين المكلومين من غير حزبه، وخطاباته كل يوم تهاجم كل من ليس في المؤتمر، فكل الناس مخطئون ماعدا الحكومة والحزب الحاكم فهم الملائكة الأصفياء، والمخلصون الأتقياء!!
حسناً فعل الحزب الحاكم لأنه أظهر حقيقة مايريد، وعلى المعارضة أن تتحمل المسئولية، وتترك المبالغة في التعقل، فالحكمة تعني وضع الشيء في مكانه، وإذا كان النظام قد دمر حاضر شعبنا، وجعلنا كالأيتام على مآدب اللئام، لا يعرفنا العالم إلا وأيدينا ممدودة تطلب وتستجدي، أو يرانا بلاداً تأوي الإرهاب، ودولة لا تتوقف فيها الحروب والاضطرابات، ولم يعد هناك ما نخشى عليه، وبئست حياة يعيش فيها الإنسان بدون كرامة وبدون حقوق، قد يكون الطريق صعباً مليئاً بالأشواك، لكن القبول بالمذلة والهوان أسوأ منه.