إعرف وطنك
جَوْلَةٌ في الصُّومالِ!.. بقلم: العربي بنجلون
رسوم: عبدالله درقاوي قالَتْ جَدَّتِي باسِمَةً، وهِيَ تُدَغْدِغُنِي في إبْطي: أَعِرْنِي أُذُنَيْكَ، واسْمَعْنِي جَيِّداً، أَيُّها الشُّوَيْطِنُ(تصغير شيطان)!
مِلْتُ نَحْوَها ضاحِكاً: هاهُما صائِخَتانِ، ماذا تُريدينَ أنْ تَقولِي لَهُما؟
إذا نَجَحْتَ في الاِمْتِحانِ، فَسَأُرْسِلُكَ إلى أَحَدِ الْبُلْدانِ، تَقْضي فيهِ عُطْلَتَكَ الصَّيْفِيَّةَ!
لَمْ أَشْعُرْ إلاَّ وأَنا أَضُمُّ رَأْسَها بَيْنَ يَدَيَّ، وأُقَبِّلُ جَبينَها: أَطالَ اللَّهُ عُمُرَكِ، جَدَّتِي الْحَنونَ!.. لَكِنْ، أَجيبينِي: أَيَّ بَلَدٍ تَقْصِدينَ؛ تونُسَ أَمْ ليبْيا أَمْ مِصْرَ أَمْ سورْية...؟
نَهَرَتْنِي ناصِحَةً: ولِمَ تُريدُ مِنَ الآنَ أنْ تَعْرِفَ؟!..لا تَكُنْ مُتَسَرِّعاً، وانْتَظِرْ قَليلاً، فَالْعُطْلَةُ سَتَحُلُّ قَريباً!
عَمِلْتُ بِنَصيحَتِها، وبَقيتُ أَنْتَظِرُ، الْيَوْمَ غَداً، إلى أنِ اجْتَزْتُ الاِمْتِحانَ، ونَجَحْتُ بِتَفَوُّقٍ كَبيرٍ. فَأَتَيْتُها فَرِحاً:
عَلَيْكِ أنْ تَفي بِوَعْدِكِ، ألَيْسَ كَذَلِكَ، ياجَدَّتِي الطَّيِّبَةَ؟
هَزَّتْ رَأْسَها مُوافِقَةً: طَبْعاً، وهَلْ تَظُنُّنِي أُمازِحُكَ؟
إذَنْ، أيْنَ سَتُرْسِلينَنِي؟
أَطْرَقَتْ تُفَكِّرُ وتُفَكِّرُ، ثُمَّ قالَتْ: مارَأْيُكَ في أَنْ تَزورَ (الصّومالَ)؟
قَفَزْتُ في مَكانِي صائحاً، كَأَنَّ ناراً لَسَعَتْنِي:
اَلصُّومالُ؟!.. وتَدَّعينَ أَنَّكِ لا تُمازِحينَنِي؟!
- .. أَلاتَعْرِفينَ أنَّ هُناكَ حُروباً طاحِنَةً؟!
- ولِهَذا لَمْ أَجِدْ خَيْراً مِنْها!
سَأَلْتُها مُسْتَغْرِباً: أَتُحَدِّثينَنِي بِأَلْغازِ؟!
رَبَّتَتْ على رَأْسي: لاتُنْكرْ أنَّنِي رَأَيْتُكَ مَعَ أَصْدِقائكَ في الْحَيِّ تُمَثِّلُ جُنْدِيّاً في ساحَةِ الْمَعْرَكَةِ، وأنْتَ تَحْمِلُ بُنْدُقِيَّةَ ومُفَرْقَعاتِ عاشوراءَ..!
قاطَعْتُها: ياجَدَّتِي، هَذا لا يَعْنِي أَنَنِي أُحِبُّ الْحَرْبَ، وإنَّما أَلْعَبُ أَحْياناً مَعَ أصْدِقائي، أيْ نُمَثِّلُ فَقَطُّ!
هَدَّأَتْنِي وطَمْأَنَتْنِي قائلَةً:
لا تَخْشَ سوءاً، فَأَنا سَأُحْضِرُ لَكَ مِنَ الْقَبْوِ جِلْباباً أَبْيَضَ، وَرِثْتُهُ عَنْ جَدِّي، ما أَنْ تَلْبَسَهُ، حَتَّى تَخْتَفِيَ عَنِ الأَنْظارِ تَماماً. وهَكَذا سَتَتَجَوَّلُ في كُلِّ أَنْحاءِ الصّومالِ، دونَ أنْ يَراكَ أَحَدٌ. كَما أنَّكَ سَتَلْتَقي بِطِفْلٍ صومالِيٍّ في سِنِّكَ، يَصْحَبُكَ خِلالَ الرِّحْلَةِ، وهُوَ أَيْضاً سَيَخْتَفي حينَما تَشْتَبِكَ يَداكُما. والآنَ، كَفى كَلاماً، وهَيَّا مَعي حالاً!
نَزَلْنا الْقَبْوَ دَرَجَةً دَرَجَةً، نَتَلَمَّسُ طَريقَنا في ظَلامٍ حالِكٍ، ونَحْنُ نَتَعَثَّرُ بِأَكْياسٍ وأَوانٍ وفِئْرانٍ، حَتَّى وَجَدْنا صُنْدوقاً خَشَبِيّاً مُزَخْرَفاً!
وبِالْكادِ فَتَحَتْ قُفْلَهُ، فَأَخَذَتْ مِنْهُ الْجِلْبابَ الأَبْيَضَ وأَغْلَقَتْهُ. ثُمَّ صَعِدْنا مِنَ الْقَبْوِ، وكَأَنَّنا كُنَّا نَحْفِرُ بِئْراً؛ فقَدْ تَراكَمَ عَلَيْنا الْغُبارُ وخُيوطُ الْعَنْكَبوتِ، ولَمْ يَعُدْ يَرى أَحَدُنا الآخَرَ إلاَّ بِصُعوبَةٍ!
قالَتْ لي، وهِيَ تَنْفضُهُ وتَعْطِسُ: حاوِلْ أَلاَّ تَخْلَعَهُ، كَيْلا تَنْكَشِفَ لَهُمْ!..وعِنْدَما تَلْبَسُهُ، قُلْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: سَلَّمْتُ نَفْسي لِجِلْبابِي الْجَوَّالِ لِيَحْمِلَنِي إلى بِلادِ الصُّومالِ!
وبِمُجَرَّدِ أَنْ أَدْخَلْتُ جِسْمي فيهِ، وغَطَّيْتُ رَأْسي بِقُبِّهِ، اخْتَفَيْتُ عَنْ جَدَّتِي، بَلْ عَنْ عَيْنَيَّ، ولَمْ أَعُدْ أَرى إلاَّ الْخَواءَ!.. ثُمَّ رَدَّدْتُ الْجُمْلَةَ الْمَعْلومَةَ ثَلاثاً، فَوَجَدْتُنِي في (الْقَرْنِ الإفْريقي) تُحيطُ بِي الأُسودُ والنُّمورُ والتَّماسيحُ والْفِيَلَةُ والْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ والْغِزْلانُ وأَفْراسُ النَّهْرِ، الَّتي كانَتْ تَأْتِي مِنَ الْغاباتِ الْكَثيفَةِ لِتَسْتَحِمَّ وتَشْرَبَ مِنْ نَهْرَيْ (جوبا) و(شَبيلي). إذْ ذاكَ تَمَنَّيْتُ لَوْ أَسْتَطيعُ أَنْ أَسْتَحِمَّ مَعَها، لَكِنَّنِي تَذَكَّرْتُ نصيحَةَ جَدَّتِي، فَخِفْتُ أنْ يَصيرَ جِسْمي الْفَتي لُقْمَةً سائغَةً بَيْنَ فَكَّيْ تِمْساحٍ!
وسَرَّحْتُ عَيْنَيَّ شَمالاً، فَرَأَيْتُ (خَليجَ عَدَنَ) و(جيبوتِي) تَحُدُّها بِثَمانينَ كيلومِتْراً، ووَلَّيْتُ وَجْهي نَحْوَ الشَّرْقِ والْجَنوبِ، فَشاهَدْتُ (الْمُحيطَ الْهِنْدِيَّ) وأمَّا في الْغَرْبِ، فَـ(أَثْيوبْيا) تَحُدُّها بِأَلْفٍ وخَمْسِمِئَةِ كيلومِتْرٍ، و(كينْيا) بِسَبْعِمِئَةٍ.
سِرْتُ قَليلاً، وإذا بِسَاحِلِها طَويلٌ، يَمْتَدُّ ثَلاثَةَ آلافٍ وثَلاثَمِئَةِ كيلومِتْرٍ، أَيْ الأَكْبَرُ في الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ، والثَّانِي في إفْريقْيا. قُلْتُ في نَفْسي: يالَها مِنْ أرْضٍ خِصْبَةٍ!..لَوْ عَمَّها السَّلامُ والأَمْنُ، لَكانَتْ مِنْ أغْنى دُوَلِ الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ!
في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، وأنا أَتَأَمَّلُ هَذِهِ الأَرْضَ الطَّيِّبَةَ، لَمَحْتُ طِفْلاً صَغيراً في سِنِّي، نَحيلَ الْجِسْمِ، طَويلَ الْقامَةِ، بُنِّيَّ اللَّوْنِ، يرْعى جَمَلاً، فَتَقَدَّمْتُ مِنْهُ بِخُطًى بَطيئَةٍ:
اَلسَّلامُ عَلَيْكَ، أَخي!
فَالْتَفَتَ نَحْوَ صَوْتِي، ورَدَّ مُرْتَعِشاً: بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ!.. مَنْ يُكَلِّمُنِي؟!.. وأَيْنَ أَنْتَ؟!
طَمْأَنْتُهُ، وهُوَ يُحَرِّكُ عَصاهُ في الْهَواءِ، يَميناً ويَساراً:
ـ لاتَخْشَ سوءاً، أَنا إنْسِيٌّ في سِنِّكَ، جِئْتُ في رِحْلَةٍ سِياحِيَّةٍ بِبِلادِكَ الْجَميلَةِ!
سَأَلَنِي مُتَلَعْثِماً: ولِماذا.. لاتَظْهَرُ، إذا.. كُنْتَ فِعْلاً.. إنْسِيّاً؟!
أَجَبْتُهُ باسِماً: هَكَذا تُريدُنِي جَدَّتِي!.. لَكِنْ، يُمْكِنُكَ أنْ تصيرَ مُخْتَفِياً مِثْلي!
تَلأْلأَتْ عَيْناهُ دَهْشَةً: أَحَقّاً تَقولُ، ياهَذا؟!
شَبَكْتُ يَدي بِيَدِهِ، وقُلْتُ لَهُ: اُنْظُرِ الآنَ، هَلْ تَرى جِسْمَكَ؟
لا، واللَّهِ!..إنَّكَ لا تَكْذِبُ عَلَيَّ!.. هَكَذا نَسْتَطيعُ أَنْ نَتَجَوَّلَ مُطْمَئِنَّيْنِ في كُلِّ أَنْحاءِ بِلادي!..أَلاَ قُلْ لِي: ما اسْمُكَ؟
عُمَرُ، وأَنْتَ؟
عُثْمانُ!..أُساعِدُ والِدي أَحْيانا في رَعْيِ هَذا الْجَمَلِ!
وسَكَتَ قَليلاً، قَبْلَ أَنْ يَزيدَ: ماذا تَنْتَظِرْ؟!.. هَيَّا نَرْكَبْهُ!
وبِخِفَّةِ أرْجُلِنا قَفَزْنا فَوْقَ ظَهْرِ الْجَمَلِ، فَصِرْنا، نَحْنُ الثَّلاثَةَ، مُخْتَفينَ. غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كانوا يُحِسُّونَ بِحَرَكَتِنا، وكَذَلِكَ الْحَيَواناتُ الَّتي تَتَمَيَّزُ بِحاسَّةِ الشَّمِّ الْقَوِيَّةِ، لَكِنَّها لا تَسْتَطيعُ تَحْديدَ مَكانِنا!
سَأَلْتُ صَديقي عُثْمانَ: حَدِّثْنِي عَنْ تاريخِ بِلادِكَ، فَالْكَثيرُ لا يَعْرِفونَ عَنْها إلاَّ النَّزْرَ الْيَسيرَ!
اِرْتَسَمَتْ على شَفَتَيْهِ ابْتِسامَةٌ خَفيفَةٌ: حَقّاً ماقُلْتَ، أَخي!.. قَبْلَ الْقَرْنِ التَّاسِعِ الْميلادي، سادَ بِلادي الإسْلامُ واللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، وهُما اللَّذانِ وَحَّدا قَبائِلَها الْمُتَفَرِّقَةَ، كَقَبيلَةِ (عيسى) و(إسْحاقَ) و(دارودَ) و(الْهُويَةِ) و(الْمَدْجانِ) فَحَكَمَتْها مَمْلَكَةُ (عَفَّةُ). ولَمَّا قَضى عَلَيْها الأَثْيوبِّيُّونَ في الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ، قامَتْ مَمْلَكَةُ (عادِلٍ) فَمَمْلَكَةُ (مُظَفَّرٍ).. وسَنَةَ 1887 غَزاها الْبريطانِيُّونَ والإيطالِيُّونَ لِيَسْتَوْلوا على ميناءِ (مَقْديشو) ويسْتَقِرَّ جُنودُهُما فيها، فَتَصَدَّى لَهُمُ الزَّعيمُ مُحَمَّدٌ عَبْدُاللَّهِ حَسَنٌ عامَ 1899. وفي 1 يولْيو 1960 نالَتِ اسْتِقْلالَها التَّامَّ.
ولِمَ سُمِّيَتْ بِهَذا الاِسْمِ؟
كانَ الْمِصْرِيُّونَ الْقُدامى يُسَمُّونَها (أَرْضَ الآلِهَةِ والْبُخورِ والْعُطورِ) والإغْريقُ والرُّومانُ (بَرْبَرا) والْمُسْلِمونَ مَرْفَأَ (زَيْلَعَ) يُصَدِّرُونَ مِنْهُ السِّلَعَ. وفي الْقَرْنِ الْخامِسَ عَشَرَ، أَمَرَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ (أَثْيوبْيا) أَميراً مِنْ أُمَرائِهِ، اسْمُهُ (صومَّا) بِدُخولِها، فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهِ. ثُمَّ زيدَ فيهِ اللاَّمُ وحُذِفَتِ الشَّدَّةُ، لِتَدُلَّ على مَعْنى (اِذْهَبْ واحْلُبْ) لأَنَّ بِلادي تَتَوَفَّرُ على ثَرَواتٍ حَيَوانِيَّةِ تُدِرُّ حَليباً، كَالْمَعْزِ والنُّوقِ والْبَقَرِ..!
مرَرْنا بِإحْدى الْبِناياتِ، فَرَأَيْتُ الْعَلَمَ الأَزْرَقَ يُرَفْرِفُ فَوْقَها، حَتّى يَكادَ يَخْتَلِطُ مَعَ لَوْنِ السَّماءِ، لَوْلا النَّجْمَةُ الْبَيْضاءُ الَّتي تَتَوَسَّطُهُ، فَسَأَلْتُهُ: ماذا تَعْنِي تِلْكَ النَّجْمَةُ الْخُماسِيَّةُ الْبَيْضاءُ؟
إنَّها تَرْمُزُ لِصُبْحٍ مُشْرِقٍ سَيَأْتِي لِتَتَوَحَّدَ فيهِ الْمَناطِقُ الْخَمْسُ الْمُكَوِّنَةُ لِوَطَنِي، الَّذي تَصِلُ مِساحَتُهُ سِتَّمِئَةٍ وسَبْعَةً وثَلاثينَ أَلْفاً، وسِتَّمِئَةٍ وسِتِّينَ كيلومِتْراً مُرَبَّعاً، ويَبْلُغُ سُكَّانُهُ تِسْعَةَ مَلايينَ نَسَمَةٍ، يَشْتَغِلونَ بِزِراعَةِ الذُّرَةِ والْقَمْحِ وقَصَبِ السُّكَّرِ وأَعْشابِ الْبُخورِ. وبِرَعْيِ الْغَنَمِ والْمَعْزِ والإبِلِ، وصَيْدِ السَّمَكِ. وبِصِناعَةِ الْجُلودِ والْمَنْسوجاتِ والسُّكَّرِ.. كَما أنَّ أَرْضي تَدَّخِرُ مَعادِنَ، كَالْحَديدِ والْقَصْديرِ...!
قُلْتُ لَهُ: حَسَناً، هَيَّا بِنا نَزُرْ مُدُناً صومالِيَّةً!
أَشارَ إلى إحْدى الْمُدُنِ الْكَبيرَةِ الْمُقامَةِ على شاطِئِ الْبَحْرِ: اُنْظُرْ!..هَذِهِ (مَقْديشو) عاصِمَةُ وَطَني، تُطِلُّ على الْمُحيطِ الْهِنْدِيِّ بِمينائِها الْعَصْرِيِّ ومَطارِها الدَّوْلِيِّ. وتَتَمَيَّزُ بِشَوارِعِها الْفَسيحَةِ، وأَسْواقِها وحَدائِقِها، ومَتْحَفِها الرَّئيسِيِّ (جَريزا) الَّذي يَعْرِضُ لِزائِريهِ مُؤَلَّفاتٍ مَخْطوطَةً ووَثائِقَ تَحْريرِ الْعَبيدِ، وبَعْضَ التُّحَفِ التّقْليدِيَّةِ. وهَذِهِ (بَيْدَوا) يُسَمُّونَها (سَويسْرا) لِجَمالِ بِناياتِها وسِحْرِ طَبيعَتِها، ولِجَوِّها الْمُعْتَدِلِ والصِّحِّيِّ، الَّذي يُغْري مَرْضى الصَّدْرِ والسُّكَّرِ والْقَلْبِ والْهُزالِ لِقَضاءِ أيَّامٍ بَيْنَ أَحْضانِهِ. فَهُناكَ يَجِدونَ الرَّاحَةَ والْهُدوءَ، وأَنْواعاً مِنَ الْفَواكِهِ النَّافِعَةِ لأَجْسامِهِمْ، كَالتِّينِ واللَّيْمونِ والْمَوْزِ، والْبابايْ (فاكِهَةٌ خَضْراءُ، وصَفْراءُ كَالْمانْجو، ذاتُ رائِحَةٍ زَكِيَّةٍ، تُساعِدُ على الْهَضْمِ، وتَقْضي على الدِّيدانِ في الْمَعِدَةِ والأَمْعاءِ، وتُقَلِّلُ مِنْ خَطَرِ الإصابَةِ بِأَمْراضِ الْقَلْبِ والسَّرَطانِ)..كَما يَكْـثُرُ فيها الْعَسَلُ الأَبْيَضُ..!
قاطَعْـتُهُ مُتَعَجِّباً: اَلْعَسَلُ الأَبْيَضُ؟!..أَنا لاأَعْرِفُ إلاَّ الْعَسَلَ الأَحْمَرَ!
رَدَّ بِابْتِسامَةٍ: قالَ عَنْهُ تَعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} يَحْتَوي على أَكْثَرَ مِنْ سَبْعينَ مادَّةً عِلاجِيَّةً ووِقائِيَّةٍ. كَما يُسَمُّونَ بَيْدَوا (هِبَةَ الْعُيونِ) لِوُجودِ مَنابِعَ مائِيَّةٍ عَذْبَةٍ صافِيَّةٍ!
أَرْسَلْتُ عَيْنَيَّ بَعيداً، فَشاهدْتُ مدينَةً صَغيرَةً، يَخْتَرِقُها نَهْرٌ هادِئٌ، فَسَأَلْتُهُ: ما اسْمُ هَذِهِ الْمَدينَةِ، ذاتِ الْمَراعي الْخُضْرِ؟
إنَّها (جَوْهَرُ) نِسْبَةٌ إلى ذَلِكَ الْمَعْدِنِ الْكَريـمِ الْغالي الَّذي تَتَزَيَّنُ بِهِ النِّساءُ، لأَنَّ اللَّهَ مَنَحَها حَدائِقَ وبَساتينَ غَنَّاءَ، مَفْروشَةٍ بِالْوُرودِ والزُّهورِ، وأَشْجارِ الْفَواكِهِ. وأَمَّا النَّهْرُ، فَهُوَ (شَبيلي) ثانِي أَكْبَرِ الأَنْهارِ بِوَطَني، يَسْقي حُقولَ قَصَبِ السُّكَّرِ!
وهُناكَ مُدُنٌ أُخْرى، مِثْلَ (هَرْجيسا) عاصِمَةِ الشَّمالِ، و(بَرْبَرا) الْمَدينَةِ التَّاريخِيَّةِ الْواقِعَةِ على خَليجِ عَدَنَ، و(كِسْمايو) الْقَريبَةِ مِنَ الْمُحيطِ الْهِنْدِيِّ، و(بوصاصو) الْمَرْكَزِ التِّجارِيِّ بِأَقْصى الشَّمالِ.
ولَمَّا بَرَدَ الْهَواءُ، وحَلَّ الْمَساءُ، وبَدَأَتِ الشَّمْسُ تَخْتَفِي وَراءَ (جِبالِ سورْدْ إدْ) الْتَفَتُّ إلى عُثْمانَ مُوَدِّعاً:
شُكْراً لَكَ، صَديقي، وأَدْعوكَ إلى زِيارَتِي، فَنَحْنُ أَخَوانِ، مَهْما طالَتِ الْمَسافَةُ بَيْنَنا!
ثُمَّ رَدَّدْتُ بَيْننِي وبَيْنَ نَفْسي: سَلَّمْتُكَ نَفْسي، جِلْبابي، لِتَعودَ بِي مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ الْخصيبَةِ إلى بِلادي الْحَبيبَةِ!
في الْحينِ، وقَبْلَ أَنْ أُكْمِلَ جُمْلَتِي، وَجَدْتُنِي مَاثِلاً بَيْنَ يَدَيْ جَدَّتِي، فَسَأَلَتْنِي بِعَيْنَيْنِ مُتَلأْلِئَتَيْنِ :
هَلْ أَعْجَبَتْكَ الصُّومالُ؟
أَجَلْ، يا لَهُ مِنْ بَلَدٍ ساحِرٍ!.. ولَمْ تَغِبِي عَنْ ذِهْنِي وأنا أَتَجَوَّلُ بَيْنَ رُبوعِهِ الْجَميلَةِ، فَقَدْ أَحْضَرْتُ لَكِ مِنْهُ حَبَّةً شَهِيَّةً مِنْ فاكِهَةِ الْبابايْ!
أَطْلَقَتْ ضَحْكَةً عالِيَةً، وقالَتْ مازِحَةً: إذَنْ، هيِّئْ نَفْسَكَ، فَسَأُرْسِلُكَ في الْعُطْلَةِ الْقادِمَةِ إلى جَزيرَةِ (الْواقْ واقْ)!
العربي بنجلون
مجلة العربي الصغير - عدد نوفمبر 2010م