على غير العادة هذه المرّة قابَلَنا ضبّاط الجوازات في المنفذ اليمني "حرض" بشيء من الترحاب والسرور الذي لم نعتده من قبل، ففي كل مرةٍ نعبر هذا المنفذ نجد أنفسنا نتحسس جيوبنا، هل بقي معنا من المال شيء، هذه المرة تم بحمد الله دفع كل ما يلزم عبر فواتير رسمية سُلمت إلينا، إلا اللهم مبلغ عشرة ريالات، لم نتسلم فاتورتها.
سحرتنا كثيرا جداً الأرض اليمانية الطيبة والطبيعة الخلابة للأجواء اليمنية، لولا الإنطفاءات المتكررة للكهرباء وانعدام المياه والمرافق الخدمية على طريق الحديدة حرض، ومن لطائف القدر، أننا نجونا بفضل الله تعالى من حادث مروري، بسبب الحواجز والعوازل الاسمنتية التي وضعت وسط الطريق الأسفلتي بطريقة خاطئة فما أن تسير حتى تفاجأ بعازل أو حاجز مفاجئ مع ظلام دامس.
مررنا بسهل تهامة ولاحظنا أعمدة الكهرباء تشق هذا السهل المبارك، المليء بالخيرات والبركات والمزروعات والنّعم، إلا أن قرىً كثيرة جدا من هذا السهل لم تصلها الكهرباء أو أساسيات الحياة، وكأنها تعيش في القرون الوسطى، يخيم عليها الفقر والجهل والظلام الدامس، عشرات الآلاف من البشر في أرياف باجل والمراوعة والقطيع والمنصورية والقناوص والضحي وغيرها، لم تصلهم الكهرباء، رغم مرور حوالي خمسين عاماً على قيام الثورة اليمنية المباركة، فضلا عن الطريق والمركز الصحي والمدرسة والمستشفى ووسائل الاتصال وغيرها من ضرورات الحياة العصرية.
من المضحكات المبكيات أننا وجدنا أعمدة الكهرباء تمتد على طول خط باجل الحديدة، نحوا من 70 كم، فاستبشرنا خيرا وسررنا كثيرا لهذا الانجاز غير المتوقع، وسرعان ما علمنا أنّ هذا الخط الذي كلّف الخزينة العامة ملايين الدولارات لم يفتح إلا مرة واحدة في تاريخه، لبضع ساعات، إبان زيارة فخامة الأخ الرئيس للاحتفال بعيد الوحدة في العام المنصرم، الذي أقيم في مدينة الحديدة، ثم قطع عن هذا الخط التيار الكهربائي حتى ساعة كتابة هذه الأسطر، وإلى أجل غير مسمى.
في سهل تهامة يخيم الظلم والقهر والاعتداء والتسلط وعنجهية المشائخ، "أمشاخ" بلغة تهامة رمز الإذلال والتسلط، فهو الذي يجوز له أن يسجن من شاء ويأخذ ما شاء من البهائم والأنعام والممتلكات والنساء، دون حسيب أو رقيب، "أمشاخ" هو الرجل الوحيد الذي يجوز له أن يحتجز الفتيات الفارات من بيوت آبائهن وأهليهن، وجبر الولي جبرا على تزويج ابنته بأي ثمن، وبلا ثمن، فيما تعجز كل أجهزة الدولة أن تقف في وجهه.
بالطبع يزعم "امشاخ" أن كل من يحتجزهن بمثابة بناته وأنه مؤتمن عليهن، وأنه لا قلق عليهن ما دمن عنده!!!.
ولأنّ الفقر والجهل الشديدين هما المهيمنان على هذا السهل، فالشيخ يسوق الناس بعصاه الغليظة، والقطعان من البشر الأميون والمحرومون من أبسط مقومات الحياة الآدمية، كما سبق، يعتقدون أن "أمشاخ" يملك كل شيء، وأنه هو الدولة والدولة هو، زاد من نفوذ المشائخ في هذا السهل المطحون بألوان من المحن والبلاء، حسب رأي الخبراء، أنّ الدولة هي من يرعى هؤلاء المتسلطين وهي من تمنحهم كثيراً من الامتيازات والبركات والهيلمان والعزة بالإثم والخطيئة، وذلك لأغراض انتخابية، ف"امشاخ" إذا ترشح لأي انتخابات فمن ذا الذي يجرؤ ألا يصوت له، ولهذا فالدولة بدعمها لهؤلاء المتنفذين والطغاة، تضمن عددا من الدوائر الانتخابية، ولذا تعتبر الدولة توجيهات هؤلاء المتسلطين على رقاب الناس"أوامر" غير قابلة للنقاش، وفي كثير من الأحيان تسجن بعض أقسام الشرطة، المواطن بلا جرم اقترفه، إلا أن "أمشاخ" قال اسجنوه!!.
ولعلّ هذا هو السر وراء شعبية مسلسل الفنان القدير فهد القرني الرمضاني "همي همك"سيما في جزئه الأول فقد كان متنفساً فكرياً لكل أبناء تهامة بل وكل اليمن ومعبراً عن حالة الظلم والاضطهاد الذي يعانيه شعب تهامة من المشائخ والدولة على حد سواء.
على طول خط الحديدة صنعاء الذي لم يحظ بالصيانة اللازمة فيما يبدوا منذ عشرات السنين، يحفه من كل جانب عشرات المتوسلين والعجزة والمعوقين والمرضى، الذين يبحثون عن لقمة العيش على أرصفة الطرق، عسى أن تجود عليهم قلوب المارة ولو بشيء يسير يسد رمقهم لبضع ساعات، ويبدوا أنّ هذه الحالة صارت مهنة يمتهنها هؤلاء، ويبدوا أيضا أنّ هؤلاء سقطوا سهوا من الخطة الخمسية لبرنامج فخامة الأخ الرئيس وفقه الله "يمن جديد".
في العاصمة صنعاء يأسرك الجمال والرونق والأبنية القديمة، سيما أبنية صنعاء وأسواقها القديمة وخط السايلة وخط السبعين وبعض الجسور والأنفاق التي خففت كثيرا من الزحام في بعض الشوارع، ولكن نتيجة غياب الدولة وقبل غياب الدولة غياب الوعي، تجد أن شوارع صنعاء مكتظة بالسكان والباعة والسيارات، والأسواق تقع في وسط الشوارع، كما في شارع هائل والحصبة والتلفزيون ..وويل لك ثم ويل لك إن فكرت في مغادرة منزلك لشراء غرض ما، فأمامك بضع ساعات من الألم والانتظار وحرب الأعصاب حتى تصل إلى مبتغاك.
وفي أتون الظلام الدامس تجد نور الإيمان يفيض عليك في كل شارع تسلكه، وكل وجه تراه، أو شخص تحدثه وتكلمه، أذكر أننا اتجهنا إلى شارع القصر وسط العاصمة صنعاء لغرض الصرافة، قضينا نحوا من أربع ساعات لهذا الغرض، نتيجة الزحام غير المعقول وغير المقبول، ومع انطفاء الكهرباء وشدة الظلام الذي اعتاده أبناء العاصمة صنعاء، والذي يمتد لأوقات طويلة، تصل في بعض الأحيان إلى ست ساعات متواصلة، وجدنا الجميع يعمل، بما في ذلك محلات الذهب والصرافة والملابس والصيدليات...ولم تقع حالة سطو واحدة، وهو مشهد عجيب وفريد من نوعه، يدلل بحق أن هذا الشعب الكريم هو شعب الإيمان والحكمة والصبر، ولعلّ الحكومة الموقرة أرادات بكثرة الانطفاءات الكهربائية المتكررة تقوية الإيمان وزيادته في نفوس شعبها، لربما ولعل وعسى، للحكومة أعذارا أخرى لا نعلمها، والسعيد من التمس المعاذير!!!.
من خلال تجوالنا في أسواق العاصمة صنعاء ومساجدها وشوارعها، أدركنا جيدا أنّ أحد أهم ميادين الصراع المحتدم بين مختلف التيارات السياسية والفكرية اليمنية هو عنصر المرأة وأن من يملك صوت المرأة يستطيع التغيير في البلد.
وحسناً ما فعلته بعض الأحزاب السياسية من العناية بدور المرأة والاهتمام بها من خلال إشراكها في بعض مصادر القرار، بالطبع في تقديري لم يأت هذا القرار لأجل مكاسب انتخابية، وإنما فيما يبدوا ينبع هذا القرار من قناعة شرعية ووطنية وواقعية بأهمية دور المرأة في التغيير المنشود، والذين عارضوا هذا القرار أعني إشراك المرأة في مصادر القرار إنما كان فيما أحسب بدوافع من التقوى والورع لا أكثر، وهو أمرٌ يشكرون عليه.
لا يغيب عن ناظريك أيها السعيد كثيراً من مؤسسات المجتمع المدني كالجامعات والمدارس الأهلية والبنوك والمشافي والشركات والجمعيات الخيرية ومرافق خدمية أخرى كثيرة، قامت بجهود أهلية، بعيدا عن سلطة الدولة، وهذا أمر يعكس بحق الحكمة اليمانية، سيما أنّ هذه المؤسسات حققت وتحقق نجاحات كبيرة، وأبرزت بشكل واضح وكبير سوءات النظام الروتيني لبعض المؤسسات الرسمية، وسدت كثيرا من الفجوات والاحتياجات الاجتماعية في شتى مجالات الحياة.