يمر اليمن ( السعيد ) ، العصي سابقاً على الاحتلال ، بمرحلة من أخطر مراحل تاريخه ، حيث لا يفقد فيها ( سعادته ) بل كيانه كله . فبعد أحداث صعدة شمال غرب البلاد والتي تحولت إلى حرب مستعرة في الآونة الأخيرة وخلفت مئات القتلى والجرحى وتحولت إلى كارثة وطنية وقومية ، انطلقت أحداث ومطالب من حركات وشخصيات تنتمي لمختلف الاتجاهات تطالب بفصل جنوب اليمن عن شماله بعد الوحدة التي مضى عليها ما يقارب العقدين ، وتجري هذه المطالبة أمام سمع العرب ومثقفيهم وبدعم من قوى تحاول أن تبرر هذا الانفصال بحق تقرير المصير أو ما شابه ، وبغياب تام للجامعة العربية ودولها . بل أكثر من ذلك تحت سمع وبصر وصمت الشخصيات و الهيئات والمؤسسات المعنية بقضية الوحدة والمستقبل العربي ، وجميع التيارات والأحزاب القومية والعربية وممثلين لها كالمؤتمر القومي العربي ، ومؤتمر الأحزاب العربية الذي في غالبيته من هذا التيار .
إننا لا نزعم أننا خبراء بأوضاع اليمن وشؤونه, إلا أن شعورنا القومي يجعلنا نتحسس حجم الكارثة التي يمر بها . كما أننا من الصعب أن نتناول كل مشاكل اليمن المعقدة لكننا نجد في الهجوم العسكري الذي شنته قوى السلطة على معاقل (الحوثيين ) في صعده والذي يهدف ظاهرياً إلى إنهاء ( " التمرد " كما يصر عليه النظام ), و المستمر منذ خمس سنوات، محاولة للتغطية على الأحداث التي تندلع في أنحاء اليمن, والمطالبة بإصلاح النظام الذي يحكم هذا البلد منذ 1978، بعقلية تفوق في تأخرها عقلية الإمامة مع فارق أكبر وهو من أجل استمراره عمل على استخدام وسائل التفرقة والتمزيق للمجتمع اليمني الذي كان حكم الإمامة نفسه يتحسب من ممارستها ، إضافة لخضوعه لهيمنة الولايات المتحدة, و تهيئة الظروف من اجل التوريث. مع زيادة في الرشوة والمحسوبية وتنوع دائرة الولاء مستغلاً الواقع الاجتماعي الذي تذكيه الروح القبلية و يغرق في ظلمات التأخر .
ومع كل المسؤولية التي يتحملها النظام فيما آلت إليه أوضاع اليمن والواقع الاجتماعي الثقيل الذي يسنده , إلا أن هناك أيدي وعقول وجهت جهودها نحو ضرب المصلحة الوطنية والقومية بدلاً من توحيد جهودها مع كل القوى اليمنية لمعارضة أساليب النظام وحشد كل الإمكانيات للضغط عليه من اجل تغيير نهجه وسياسته , فاتخذت من ممارساته حجة لضرب أقدس مقدسات العرب وهي الوحدة ، فانعكس موقفها إيجاباً على النظام ألذي يدرك مدى حرص الشعب اليمني على وحدته وعدم التفريط بها مهما كانت الأسباب .
عندما تحققت الوحدة بين شطري اليمن عام 1991 حظيت باهتمام وتأييد الغالبية العظمى من أبناء الشعب العربي بكل فئاته ، كما حظيت بدعم وتأييد الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب اليمني في شماله وجنوبه والبالغ عدده نحو 25 مليون ( 20 مليون في الشمال و 5 ملايين في الجنوب ) إذ وجدوا في وحدتهم عودة إلى الواقع الطبيعي بأن تتوحد أوصال دولتهم ووطنهم بعد أن قسمها الاستعمار لعقود طويلة . كما وجد فيها العرب رداً على المشاريع الانفصالية التي تخطط لها قوى الهيمنة والصهيونية العالمية لتقسيم دول الوطن العربي إلى كيانات على أساس أثني أو طائفي أو عرقي . بينما أمل المثقفون والسياسيون العرب أن تقوم هذه الوحدة بعملية تفاعل ثقافي ، حيث خضع الجنوب للحكم البريطاني لفترة طويلة ، وقد أتاحت له مقاومة الاحتلال بعض النمو السياسي والتقدم الاجتماعي وبرزت من ضمنه عدة حركات سياسية لعبت دوراً سياسياً ليس في جنوب اليمن بل في الحياة السياسية العربية ، مثل حركة القوميين العرب وبعض فصائل حزب البعث وحركة الناصريين والحركات القومية الأخرى , التي ساندت ودعمت حركات المقاومة في الخليج وعُمان . مما عزز الأمل لدى هؤلاء المثقفين الذين احتضنوا الوحدة ودافعوا عنها أن يلعب جنوب اليمن من خلال الوحدة دوراً في دفع الشمال إلى بعض التقدم أو الخروج من أسوار التأخر ، لكن سياسة النظام التي خربت الحياة السياسية وألغت النشاط الحزبي والسياسي أو قيدته ، جعلت الأمور تسير بالعكس تماماً , فبدلاً من أن يؤثر الجنوب في الشمال عاد الجنوب إلى عادات الشمال ، وأخذت تظهر فيه روح القبلية والعشائر . ولعب الإقطاع والرأسمال الذين ضربت الثورة مصالحهم في الجنوب دوراً بارزاً في ذلك بتحالفهم المباشر وغير المباشر مع النظام الحاكم . وقد استغلت الأحداث الدامية التي جرت بين السياسيين المتصارعين وأحزابهم وتكتلاتهم في هذه الأحزاب إلى ضرب كل ما تبقى من تأثيرات الثورة وملامح التقدم .
ويأتي الدعم الآخر للوحدة من كونها قامت في أوضاع عالمية معقدة ، حيث بدا الاتحاد السوفييتي وكتلته الاشتراكية على وشك الانهيار ، وبدت الحرب الباردة في نهايتها . وفقد العرب حليفهم الاستراتيجي ، وأصبحوا من جديد يخضعون لهيمنة دولة القطب الواحد التي طالما ناصبتهم العداء واعتقد المثقفون والسياسيون العرب أن تلك الوحدة قد تكون حافزاً لنا كي نتضامن ونتوحد في مواجهة سياسة القطب الذي فرضت أمريكا نفسها عليه . وقد ارتفعت في حينها أصوات تطالب بأن توضع للوحدة أسساً تجعل استمرارها راسخاً حتى لا تلقى نفس المصير الذي لقيته الوحدات السابقة . وعندما حاولت بعض القوى فصل الوحدة عام 1994 وقفت جموع المثقفين بكل ثقلهم إلى جانبها ، وأدانوا هذه المحاولة وأيدوا إجهاض الجيش اليمني لهذه المحاولة رغم إدراكهم أن الذي يقود هذه الوحدة هو النظام الذي لا يختلف بشيء عن الأنظمة العربية الاستبدادية والشمولية الذي لا يهمه في سياسته سوى الاستمرار في الحكم مهما كانت الوسائل التي يستخدمونها . لكن كل هذا التأييد العربي والأسباب الموجبة لم تمنع بعض السياسيين وأصحاب المصالح السياسية والاقتصادية من استغلال فساد النظام للمطالبة بفصل الوحدة وهم الذين لم يؤيدونها بالأصل ، وبقوا يصرون على تسمية اليمن الجنوبي واليمن الشمالي بدل جنوب اليمن وشماله في تأكيد تبريري للانفصال . ( من المؤسف أن أغلب السياسيين اليمنيين والعرب الذين نلتقيهم يستخدمون هذه التسمية ) .
عندما نضع اليمن بشطريه تحت الرؤية السياسية العربية ترتسم لنا الصورة التي تتحكم بها الأنظمة العربية بهذه السياسة حيث يفرض النظام انتماءه السياسي والجغرافي والقبلي ، فيصبح الجنوب في هذه الحالة واحداً من المحافظات في أية دولة عربية تتمتع ببعض الموارد وتخضع لعملية النهب لصالح النظام ومواليه وأزلامه , فجنوب اليمن الذي تشكل كدولة عام 1967 فيه من الإمكانيات والموارد التي تزيد عما هو في الشمال وهو ما فتح شهية الفئات المستغلة في السلطة إلى ممارسة النهب لهذه الموارد وحرمان الشعب اليمني منها ، وكان الشمال هو المحروم الأول إذ بقي أبناؤه يغرقون في الفقر الذي وصلت حدوده إلى 45 % من السكان وتجاوزت البطالة فيه ال35 % ، واستنفذ كامل النفط الذي ذهبت موارده إلى أصحاب النفوذ وعملاءهم في الخارج ، وتوقفت الزراعة التي تشغّل 55 % من السكان وحلت محلها زراعة القات . وزاد في الطين بلة عدد المهاجرين من دول الجوار الأفريقي والهاربين من الأحداث الدامية فيها فأصبحوا عبئاً على اقتصاده . وتفيد اغلب التقارير أن الذي يستغل الجنوب ليس الشمال كما يشيع دعاة الانفصال . بل أن الشعب اليمني كله خاضع للاستغلال والنهب وهذا ما يجعل دعوة الانفصال باطلة وتصب في مصلحة النظام . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ما الذي يضمن ألا يأتي النظام الناتج عن الانفصال مماثلاً للأنظمة العربية ، خاصة وأن عدداً كبيراً من الداعين للانفصال كانوا بالأمس على رأس النظام في الجنوب واقتتلوا ضد بعضهم البعض .
إن تجربة الوحدة اليمنية يجب أن لا تخضع لمزاج ( ديمقراطيو اليوم ) الذين يبررون الدعوة للانفصال بحق تقرير المصير , وهو الشعار الذي تخطط له قوى الهيمنة ، وكأن هذا الحق هو ملك الأقليات دون أن يكون للأكثرية الحق بممارسته أو صيانة حقوقها من خلاله . رغم أن وحدة اليمن تتميز عن كل الوحدات بأنها وحدة شعب واحد عاش في شطرين أوجدهما الاستعمار قسراً , والشعب اليمني كله مع وحدته .
إن اليمن يمر بمرحلة خطيرة ومستقبل مجهول تتقاذفه تيارات التطرف والنهب الأمريكي واستغلال النظام ، ونحن نحذر القوميين العرب وجميع الذين ينضوون تحت هذا التيار من أن ضرب وحدته مهما كانت المبررات سيكون المعول الأخير ليس في ضرب فكرة الوحدة فقط بل التيار القومي العربي برمته , وهو ما تسعى إليه قوى الهيمنة . كما نؤكد مجدداً على المؤتمر القومي العربي , والمؤتمر القومي الإسلامي , ومؤتمر الأحزاب العربية وجميع التيارات القومية والمثقفين العرب وهيأتهم بأن يبذلوا كل ما بوسعهم لإنقاذ الوحدة . بل وعلينا كلنا أن نبذل كل ما هو ممكن للدفاع عن هذه الوحدة .