المنتدى العربــي منتديــات كل الـعـرب
الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك في المنتدى العربي منتديات كل العرب
شكرا الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) 829894
ادارة المنتدي الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) 103798
المنتدى العربــي منتديــات كل الـعـرب
الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك في المنتدى العربي منتديات كل العرب
شكرا الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) 829894
ادارة المنتدي الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) 103798
المنتدى العربــي منتديــات كل الـعـرب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


ثورات الشعوب ليست ضد الاستعمار فحسب بل ضد الانظمة الفاسدة التي هي امتداد للأستعمار بأيادي داخليه
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

» نـــفـحـــــــــــات رمــــــــضـــــــانــــــــــيـةالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالإثنين يونيو 05, 2017 12:29 am من طرفابوعماد» مناجاة رمضانية الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالإثنين يونيو 05, 2017 12:27 am من طرفابوعماد» الوحده اليمنيهالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالجمعة مايو 23, 2014 6:26 am من طرفابوعماد» الوحده اليمنيه في التاريخالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالجمعة مايو 23, 2014 6:22 am من طرفابوعماد» على كل حال تحياتي لسعادة المدير ابو عمادالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالأحد نوفمبر 17, 2013 7:26 am من طرفالمتميز» الشيخ/ظيف اللةمحمدعبدالرحمن الظبيانيالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالأحد أكتوبر 13, 2013 4:14 am من طرفاميرباخلاقي» اسمحولي على الغياب الطويلالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالأحد أكتوبر 13, 2013 4:00 am من طرفاميرباخلاقي» اجمل ترحيب بالاخ عبدالوهاب عبدالكريمالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالثلاثاء أبريل 23, 2013 12:18 pm من طرفebraheem algobany» تصعيد مسلح في الحصبة يُهدد بحرف مسار مؤتمر الحوار الوطني الشاملالصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالخميس مارس 28, 2013 12:36 pm من طرفالجبني 2011» الرئيس السابق " صالح " يحارب وقت الفراغ بافتتاح صفحة رسمية على موقع ( فيسبوك )الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالخميس مارس 28, 2013 12:31 pm من طرفالجبني 2011

 

 الصحوة الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
salahaldeen
اديب المنتدى
اديب المنتدى



تاريخ التسجيل : 14/03/2010
العمر : 66

الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Empty
مُساهمةموضوع: الصحوة الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي)   الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالأربعاء يونيو 16, 2010 4:20 pm


كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف
بقلم شيخ الأسلام والمجدد العلامه يوسف القرضاوي
(الأولى)
التطرف بين الحقيقة والاتهام

يقول علماء المنطق: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذ لا يمكن الحكم على المجهول، كما لا يمكن الحكم على شيء مختلف في تحديد ماهيته، وتصوير حقيقته: أي شيء هي؟



لهذا كان علينا بادئ ذي بدء أن نكشف عن معنى التطرف الديني وحقيقته وأبرز علاماته.

والتطرف في اللغة معناه: الوقوف في الطرف، بعيداً عن الوسط، وأصله في الحسيات، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم انتقل إلى المعنويات، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك.



ومن لوازم التطرف: أنه أقرب إلى المهلكة والخطر، وأبعد عن الحماية والأمان، وفي هذا قال الشاعر:

كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث، حتى أصبحت طرفاً!



كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

التشــديد في غير محله

3 - ومما ينكر من التشديد أن يكون في غير مكانه وزمانه، كأن يكون في غير دار الإسلام وبلاده الأصلية، أو مع قوم حديثي عهد بإسلام، أو حديثي عهد بتوبة.



فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية، والأمور الخلافية، والتركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات، والأصول قبل الفروع، وتصحيح عقائدهم أولاً، فإذا اطمأن إليها دعاهم إلى أركان الإسلام، ثم إلى شعب الإيمان، ثم إلى مقامات الإحسان.

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له:



إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افتر عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم... (الحديث متفق عليه ).



فانظر كيف أمره أن يتدرج في دعوتهم، فيبدأ بالأساس، وهو الشهادتان: الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم إذا استجابوا دعاهم إلى الركن الثاني، وهو الصلاة، فإن أطاعوا انتقل إلى الركن الثالث، وهو الزكاة... وهكذا.



ولقد راعني أن وجدت بعض الشباب المخلصين من بعض الجماعات الإسلامية في أمريكا، قد أثاروا جدلاً عنيفاً في أحد المراكز الإسلامية، لأن المسلمين يجلسون على الكراسي في محاضرات السبت والأحد، ولا يجلسون على الحصير أو السجاد كما يجلس أهل المساجد، ولأنهم لا يتجهون في جلوسهم إلى القبلة، كما هو أدب المسلم، وأنهم يلبسون البنطلونات لا الجلاليب البيض، ويأكلون على المناضد لا على الأرض... الخ.



وقد غاظني هذا النوع من التفكير والسلوك في قلب أمريكا الشمالية، وقلت لهم: أولى بكم في هذا المجتمع اللاهث وراء المادة، أن تجعلوا أكبر همكم الدعوة إلى توحيد الله تعالى وعبادته، والتذكير بالدار الآخرة، وبالقيم الدينية العليا، وتحذِّروا من الموبقات التي غرقت فيها المجتمعات المتقدمة مادياً في عصرنا، أما الآداب والمكملات التحسينية في الدين، فمكانها وزمانها بعد تمكين الضروريات والأساسيات وتثبيتها.



وفي مركز إسلامي آخر، وجدتهم أقاموا الدنيا وأقعدوها من أجل عرض فيلم تاريخي أو تعليمي في المسجد، وقالوا: قد حوّلوا المسجد إلى سينما! ونسي هؤلاء أن المسجد وضع لمصلحة المسلمين الدينية والدنيوية، وقد كان في عهد النبوة دار الدعوة ومركز الدولة، ومحور النشاط في المجتمع، ولا يجهل أحد ما رواه البخاري وغيره من إذن النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في قلب مسجده الشريف، وسماحه لعائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم وهم يلعبون.





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

الغلظــــة والخشــــونة

4 - ومن مظاهر التطرف: الغلظة في التعامل، والخشونة في الأسلوب، والفظاظة في الدعوة، خلافاً لهداية الله تعالى، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.



فالله تعالى يأمرنا أن ندعو إلى الله بالحكمة لا بالحماقة،وبالموعظة الحسنة، لا بالعبارة الخشنة، وأن نجادل بالتي هي أحسن ((ادْع إلى سبيلِ ربِّك بالحكمة والموعِظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) [النحل:125 ].



ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لقدْ جاءكُمْ رسولٌ منْ أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمِنين رؤوفٌ رحيم )) [التوبة:128 ].



وخاطب رسوله مبيناً علاقته بأصحابه: ((فَبِما رحمةٍ مِنَ الله لِنْت لهمْ ولوْ كُنْت فظًّا غلِيظ القلْبِ لانْفضُّوا مِنْ حولك )) [آل عمران: 159 ].



ولم يذكر القرآن الغلظة والشدة إلاّ في موضعين:

1- في قلب المعركة ومواجهة الأعداء، حيث توجب العسكرية الناجحة، الصلابة عند اللقاء، وعزل مشاعر اللين حتى تضع الحرب أوزارها، وفي هذا يقول تعالى: ((قاتِلوا الذين يَلونكم مِن الكُفَّار ولْيجدوا فيكم غِلظة ً)) [التوبة:123 ].



2- والثاني في تنفيذ العقوبات الشرعية على مستحقيها، حيث لا مجال لعواطف الرحمة في إقامة حدود الله في أرضه: ((ولا تأخُذكم بِهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر )) [النور:2 ].



أما في مجال الدعوة، فلا مكان للعنف والخشونة، وفي الحديث الصحيح: إن الله يحب الرفق في الأمر كله ، وفي الأثر: من أمر بمعروف، فليكن أمره بمعروف ، وقال صلى الله عليه وسلم : ما دخل الرفق في شيء إلاّ زانه، ولا دخل العنف في شيءٍ إلاّ شانه .



ولا شيء يشينه العنف إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنها تحاول أن تدخل إلى أعماق الإنسان، لتجعل منه شخصاً ربانياً في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدل كيانه كله وتنشئ منه خلقاً آخر، فكراً وشعوراً وإرادة، كما أنها تهز كيان الجماعة هزاً، لتغير عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة. .



وهذا كله لا يمكن أن يتم إلاّ بالحكمة وحسن التأتي للأمور، والمعرفة بطبيعة الإنسان وعناده، وجموده على القديم، وأنه أكثر شيء جدلاً، فلابد من الترفق في الدخول إلى عقله، والتسلل إلى قلبه، حتى نلين من شدته، ونكفكف من جموده، ونطامن من كبريائه.

وهذا ما قصه علينا القرآن من مسالك الأنبياء والدعاة إلى الله من المؤمنين الصادقين، كما نرى في دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، ودعوة شعيب لقومه، ودعوة موسى لفرعون، ودعوة مؤمن آل فرعون، ومؤمن سورة ((يس )) وغيرهم من دعاة الحق والخير.



انظر إلى مؤمن آل فرعون كيف وقف يخاطب فرعون ومن معه، إنه يشعرهم بأنهم قومه، وأنه واحد منهم، يهمه أمرهم، ويعنيه أن يبقى لهم ملكهم، ويدوم لهم مجدهم، فهو يخاطبهم بهذه الروح: ((يا قَومِ لكم المُلك اليوم ظاهِرين في الأرض فمن ينْصرنا مِن بأس الله إن جاءَنا )) [غافر:29 ].



ثم يخوفهم مما أصاب الأمم من قبلهم حين أعرضوا عن دعوة الله تعالى وطاعة رسله: ((يا قومِ إنِّي أخاف عليكم مِثل يوم الأحزاب مِثل داب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين مِن بعدهم وما الله يُريد ظُلماً للعباد )) [غافر:30-31 ]



وبعد أن يخوفهم من عذاب الدنيا يثير فيهم الخوف من عذاب الآخرة التي يؤمنون بها بصورة من الصور: ((ويا قَومِ إنِّي أخاف عليكم يوم التناد يوم تُولّون مُدبِرين ما لكم مِن الله من عاصمٍ ومن يُضلِل الله فما له من هاد ٍ)) [غافر:32-33 ].



ويستمر هذا المؤمن المخلص في دعوته لقومه بهذا الأسلوب الذي يفيض رقة وحنواً، مرهباً حيناً، ومرغباً حيناً آخر: ((يا قوم اتّبِعون أهدكم سبيل الرشاد، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإنّ الآخرة هي دار القرار.... ويا قوم مالِي أدعوكم إلى النجاةِ وتدعونني إلى النار، تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علمٌ وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفَّار )) [غافر:38-42 ]، إلى أن يقول لهم في ختام وصيته: ((فستذْكرون ما أقول لكُم وأفوِّض أمري إلى الله إنّ الله بصيرٌ بالعباد )) [غافر:44 ].



هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لأصحاب الدعوات أن يتبعوه في دعوتهم للمعاندين، ومخاطبتهم للمخالفين، وحسبنا وصية الله تعالى للرسولين الكريمين موسى وهارون: ((اذهبا إلى فِرعون إنَّه طغى فقولا له قولاً ليِّناً لعلّه يتذكّرُ أو يخشى )) [طه:43-44 ].



ولهذا لما واجه موسى فرعون عرض عليه الدعوة في هذه الصورة الرقيقة: ((هلْ لك إلى أن تزكّى وأهدِيك إلى ربِّك فتخْشى )) [النازعات:18-19 ].



ولا غرو أن أنكر الدعاة الوعاة على بعض الشباب المخلصين الطريقة التي يتعاملون بها مع الناس في السلوك، أو يتحاورون بها مع المخالفين في الفكر، فقد غلب عليها المخاطبة بالخشونة والشدة، والمواجهة بالغلظة والحدة، ولم يعد جدالهم لمعارضيهم بالتي هي أحسن، بل بالتي هي أخشن، ولم يفرقوا في ذلك بين الكبير والصغير.. ولم يميزوا بين من له حرمة خاصة كالأب والأم، ومن ليس كذلك.. ولا بين من له حق التوقير والتكريم كالعالم الفقيه، والمعلم المربي، ومن ليس كذلك، ولا بين من له سابقة في الدعوة والجهاد، ومن لا سابقة له.. ولم يفصلوا بين من له عذره إلى حد ما -كالعوام والأميين والمخدوعين - من الجماهير المشغولة بمعاشها ومتاعبها اليومية، ومن لا عذر له، ممن يقاوم الإسلام عن حقد، أو عمالة وخيانة، ويقتحم النار على بصيرة، وقديماً فرّق أئمة الحديث رضي الله عنهم بين عوام المبتدعين ممّن لا يدعو إلى بدعته، وبين من نصب نفسه داعية للبدعة مروِّجاً لها، مناضلاً عنها، فقبلوا رواية الأول، وردوا رواية الآخر.



كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

ســـــوء الظــن بالنـــاس

5 - ومن مظاهر التطرف ولوازمه: سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم من خلال منظار أسود، يخفي حسناتهم، على حين يضخم سيئاتهم. الأصل عند المتطرف هو الاتهام، والأصل في الاتهام الإدانة، خلافاً لما تقرره الشرائع والقوانين: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.



تجد الغلاة دائماً يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، قفلا يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتقممون الأخطاء، ليضربوا بها الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفراً!!



وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، خلافاً لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل حمل حال المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان.

وقد كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين ثم أقول: لعلّ له عذراً آخر لا أعرفه!



من خالف هؤلاء في رأي أو سلوك - تبعاً لوجهة نظر عنده - اتهم في دينه بالمعصية أو الابتداع أو احتقار السنة، أو ما شاء لهم سوء الظن.



فإذا خالفتهم في سنية حمل العصا، أو الأكل على الأرض مثلاً، اتهموك بأنك لا تحترم السنة، أو لا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأبي هو وأمي! ولا يقتصر سوء الظن عند هؤلاء على العامة، بل يتعدى إلى الخاصة، وخاصة الخاصة، فلا يكاد ينجو فقيه أو داعية أو مفكر إلا مسّه شواظ من اتهام هؤلاء.



فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون بالدين.

وإذا عرض داعية الإسلام عرضاً يلائم ذوق العصر، متكلماً بلسان أهل زمانه ليبين لهم، فهو متهم بالهزيمة النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.. وهكذا.



ولم يقف الاتهام عند الأحياء، بل انتقل إلى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يدعوا شخصية من الشخصيات المرموقة إلاّ صوبوا إليها سهام الاتهام، فهذا ماسوني، وذلك جهمي، وآخر معتزلي.



حتى أئمة المذاهب المتبوعة -على ما لهم من فضل ومكانة لدى الأمة في كافة عصورها - لم يسلموا من ألسنتهم ومن سوء ظنهم.

بل إن تاريخ الأمة كله - بما فيه من علم وثقافة وحضارة - قد أصابه من هؤلاء ما أصاب الحاضر وأكثر، فهو عند جماعة تاريخ فتن وصراع على السلطة، وعند آخرين تاريخ جاهلية وكفر، حتى زعم بعضهم أن الأمة كلها قد كفرت بعد القرن الرابع الهجري!

وقديماً قال أحد أسلاف هؤلاء لسيد البشر صلى الله عليه وسلم بعد قسمة قسمها: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! اعدل يا محمد فإنَّك لم تعدل!



إن ولع هؤلاء بالهدم لا بالبناء ولع قديم، وغرامهم بانتقاد غيرهم وتزكية أنفسهم شنشنة معروفة، والله تعالى يقول: ((فلا تُزكُّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )) [النجم:32 ]. إن آفة هؤلاء هي: سوء الظن المتغلغل في أعماق نفوسهم، ولو رجعوا إلى القرآن والسنة لوجدوا فيهما ما يغرس في نفس المسلم حسن الظن بعباد الله، فإذا وجد عيباً ستره ليستره الله في الدنيا والآخرة، وإذا وجد حسنة أظهرها وأذاعها، ولا تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته الأخرى، ما يعلم منها وما لا يعلم.



أجل، إن التعاليم الإسلامية تحذر أشد التحذير من خصلتين:

سوء الظن بالله، وسوء الظن بالناس،والله تعالى يقول: ((يا أيّها الذين آمنوا اجتنِبوا كثيراً مِن الظنِّ إنَّ بعْض الظنِّ إثمٌ )) [الحجرات:12 ]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إيّاكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث [متفق عليه ].

وأصل هذا كله: الغرور بالنفس، والازدراء للغير، ومن هنا كانت أول معصية الله في العالم: معصية إبليس، وأساسها: الغرور والكبر ((أنا خيرٌ مِنه )).



وحسبنا في التحذير من هذا الاتجاه، الحديث النبوي الصحيح: إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم. [رواه مسلم ].

جاءت الرواية بفتح الكاف فهو أهْلكهم على أنه فعل ماض، أي: كان سبباً في هلاكهم باستعلائه عليهم وسوء ظنه بهم، وتيئيسهم من روح الله تعالى.



وجاءت بضم الكاف أيضاً؟ فهو أهلكهم أي أشدهم وأسرعهم هلاكاً، بغروره وإعجابه بنفسه، واتهامه لهم.

والإعجاب بالنفس أحد المهلكات الأخلاقية التي سماها علماؤنا: معاصي القلوب التي حذّر منها الحديث النبوي بقوله: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه .



هذا مع أن المسلم لا يغتر بعمله أبداً، ويخشى أن يكون فيه من الدخل والخلل ما يحول دون قبوله، وهو لا يدري، والقرآن يصف المؤمنين السابقين بالخيرات، فيقول في أوصافهم: ((والذين يُؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ أنّهم إلى ربِّهم راجعون )) [المؤمنون:60 ]، وقد ورد في الحديث، أن هذه الآية فيمن عمل الصالحات، ويخاف ألاّ يقبل الله منه. ومن حكم ابن عطاء: ربما فتح الله لك باب الطاعة ، وما فتح لك باب القبول، وربما قدّر عليك المعصية، فكانت سبباً في الوصول، معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عُجْباً واستكباراً!



وأصل هذا من حكمة للإمام علي رضي الله عنه قال: سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك .

وقال ابن مسعود: الهلاك في اثنتين: العجب والقنوط، وذلك أن السعادة لا تدرك إلاّ بالسعي والطلب، والمعجب بنفسه لا يسعى لأنه قد وصل ، والقانط لا يسعى لأنه لا فائدة للسعي في نظره .



كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

الســـقوط في هاويـــة التــكفير

6 ـ ويبلغ هذا التطرف غايته، حين يُسقط عصمة الآخرين، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ولا يرى لهم حرمة ولا ذمة، وذلك إنما يكون حين يخوض لجّة التكفير، واتهام جمهور الناس بالخروج من الإسلام، أو عدم الدخول فيه أصلاً، كما هي دعوى بعضهم، وهذا يمثل قمة التطرف الذي يجعل صاحبه في واد، وسائر الأمة في واد آخر.



وهذا ما وقع فيه الخوارج في فجر الإسلام، والذين كانوا من أشد الناس تمسكاً بالشعائر التعبدية، صياماً وقياماً وتلاوة قرآن، ولكنهم أتوا من فساد الفكر، لا من فساد الضمير.

زين لهم سوء عملهم فرأوه حسناً، وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومن ثم وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم ومع هذا قال عنهم: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ووصف صلتهم بالقرآن فقال: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم وذكر علامتهم المميزة بأنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان .



هذه العلامة الأخيرة هي التي جعلت أحد العلماء، حين وقع مرّة في يد بعض الخوارج، فسألوه عن هويته، فقال: مشرك مستجير، يريد أن يسمع كلام الله .



وهنا قالوا له: حق علينا أن نجيرك، ونبلغك مأمنك، وتلوا قول الله تعالى: ((وإن أحدٌ مِن المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلِغه مأمنه )) [التوبة:6 ]، بهذه الكلمات نجا مشرك مستجير ، ولو قال لهم: مسلم: لقطعوا رأسه !

وما وقع لطائفة الخوارج قديماً، وقع لأخلافهم حديثاً، وأعني بهم من سموهم جماعة التكفير والهجرة .

فهم يكفرون كل من ارتكب معصية وأصر عليها، ولم يتب منها. وهم يكفرون الحكام، لأنهم لم يحكموا بما أنزل الله.

ويكفرون المحكومين، لأنهم رضوا بهم، وتابعوهم على الحكم بغير ما أنزل الله.

وهم يكفرون علماء الدين وغيرهم، لأنهم لم يكفروا الحكام والمحكومين، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر.

وهم يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم، فلم يقبله، ولم يدخل فيما دخلوا فيه.

ويكفرون كل من قبل فكرهم، ولم يدخل في جماعتهم ويبايع إمامهم.

ومن بايع إمامهم ودخل في جماعتهم، ثم تراءى له - لسبب أو لآخر - أن يتركها، فهو مرتد حلال الدم.

وكل الجماعات الإسلامية الأخرى إذا بلغتها دعوتهم ولم تحلّ نفسها لتبايع إمامهم فهي كافرة مارقة.

وكل من أخذ بأقوال الأئمة، أو بالإجماع أو القياس أو المصلحة المرسلة أو الاستحسان ونحوها، فهو مشرك كافر.



والعصور الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري، كلها عصور كفر وجاهلية، لتقديسها لصنم التقليد المعبود من دون الله! (انظر كتاب ذكرياتي مع جماعة المسلمين - التكفير والهجرة - عبد الرحمن أبو الخير ).



وهكذا أسرف هؤلاء في التكفير، فكفروا الناس أحياءً وأمواتاً بالجملة، هذا مع أن تكفير المسلم أمر خطير، يترتب عليه حل دمه وماله، والتفريق بينه وبين زوجه وولده، وقطع ما بينه وبين المسلمين ، فلا يرث ولا يورث و لايوالي، وإذا مات لا يغسل ولا يكفن،ولا يصلى عليه،ولا يدفن في مقابر المسلمين.



ولهذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الاتهام بالكفر، فشدد التحذير، ففي الحديث الصحيح: من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما فما لم يكن الآخر كافراً بيقين، فسترد التهمة على من قالها، ويبوء بها، وفي هذا خطر جسيم.



وقد صح من حديث أسامة بن زيد: أن من قال: لا إله إلا الله فقد دخل في الإسلام وعَصَمَتْ دمَهُ ومَالَهُ، وإن قالها خوفاً أو تعوذاً من السيف، فحسابه على الله، ولنا الظاهر، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم غاية الإنكار على أسامة حين قتل الرجل في المعركة بعد أن نطق بالشهادة، وقال: قتلته بعد أن قال: لا إله إلاّ الله؟ قال: إنما قالها تعوذاً من السيف؟ قال: هلاّ شققت قلبه؟ ما تصنع بـ لا إله إلاّ الله ؟!! قال أسامة: فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ فقط .



ومن دخل الإسلام بيقين لا يجوز إخراجه منه إلاّ بيقين مثله، فاليقين لا يزول بالشك، والمعاصي لا تخرج المسلم من الإسلام، حتى الكبائر منها. كالقتل، والزنى، وشرب الخمر. ما لم يستخف بحكم الله فيها، أو يرده ويرفضه.



ولهذا أثبت القرآن الأخوة الدينية بين القاتل التعمد وولي المقتول المسلم، بقوله: (فَمَن عُفي له مِن أخيه شيءٌ فاتِّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ )) [البقرة:178 ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن لعن الشارب الذي عوقب في الخمر أكثر من مرة: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله .



وفاوتت الشريعة بين عقوبة القتل والزنى والسكر، ولو كانت كلها كفراً، لعوقب الجميع عقوبة المرتد.



وكل الشبهات التي استند إليها الغلاة في التكفير، مردودة بالمحكمات البينات من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو فكر فرغت منه الأمة منذ قرون، فجاء هؤلاء، يجددونه، وهيهات...





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

فلنبحث عــن الأســباب

أسباب التطرف وبواعثه:

ذلك هو التطرف الديني، وتلك بعض ملامحه ودلائله.



ومن المؤكد أن هذا التطرف لم يأت اعتباطاً، ولم ينشأ جزافاً، بل له أسبابه ودواعيه،والوقائع والأعمال كالكائنات الحية لا تولد من غير شيء، ولا تنبت من غير بذر،وإنما تستثمر النتائج من مقدمات وتستولد المسببات من أسباب، سنة الله في خلقه.



ومعرفة السبب هنا غاية في الأهمية، لا ليبطل العجب فقط كما قيل، ولكن ليمكن على أساس معرفته تحديد نوع العلاج، وصفة الدواء. إذ لا علاج إلا بعد تشخيص، ولا تشخيص إلا ببيان السبب أو الأسباب.



وهنا نسأل مع السائلين عن الأسباب والبواعث التي أدت إلى هذا التطرف، أو الغلو في الدين؟



كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

النظرة المتكاملة إلى أسباب التطرف

والحقيقة أن سبب هذا التطرف ليس شيئاً واحداً ولكن أسبابه متعددة متنوعة، وليس من الإنصاف للحقائق أن نركز على سبب واحد، ونغض الطرف عن الأسباب الأخرى، كما يصنع عادة كل منتمٍ إلى مدرسة معينة.



فأصحاب المدرسة النفسية يرجعون كل تصرف إلى أسباب نفسية خالصة، كثيراً ما تكمن في العقل الباطن أو اللاشعور، وبخاصة مدرسة التحليل النفسي.



والمدرسة الاجتماعية ترد كل شيء إلى تأثير المجتمع وأوضاعه وتقاليده، وما المرء إلا دمية يحرك خيوطها المجتمع كما يقول دور كايم!

وأنصار المادية التاريخية لا يقيمون وزناً إلا للاعتبارات المادية، والدوافع الاقتصادية، فهي التي تصنع الأحداث، وتغير التاريخ.



وأصحاب النظرة الشاملة المتوازنة يعترفون بأن الأسباب متشابكة ومتداخلة، وكلها تعمل بأقدار متفاوتة، مؤثرة آثاراً مختلفة، قد يقوى أثرها في شخص ويضعف في آخر، ولكنها جميعاً لها في النهاية أثرها الذي لا يجحد.



فلا ينبغي لنا أن نقف عند سبب واحد، يبرز أمامنا، ويطغى على غيره من الأسباب. فالواقع أن الظاهرة التي بين أيدينا ظاهرة مركبة، معقدة، وأسبابها كثيرة ومتنوعة، ومتداخلة، بعضها قريب، وبعضها بعيد، بعضها مباشر، وبعضها غير مباشر، بعضها ماثل للعين، طافٍ على السطح، وبعضها غائص في الأعماق.



من هذه الأسباب ما هو ديني، وما هو سياسي، منها ما هو اجتماعي، وما هو اقتصادي، ومنها ما هو نفسي، وما هو فكري، وما هو خليط من هذا كله أو بعضه.



قد يكمن سبب هذه الظاهرة ـ أو السبب الأول لها ـ في داخل الشخص المتطرف نفسه، وقد يكون السبب أو بعضه عند البحث، داخل أسرته،عند أبويه وإخوته وعلاقاته بهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض.



وقد يرجع السبب عند التحليل والتعمق إلى المجتمع ذاته، وما يحمل في طيه من تناقضات صارخة: بين العقيدة والسلوك.. بين الواجب والواقع.. بين الدين والسياسة.. بين القول والعمل.. بين الآمال والمنجزات.. بين ما شرعه الله وما وضع البشر.



ومثل هذه المتناقضات إن احتملها الشيوخ لا يحتملها الشباب، وإن احتملها بعضهم، لا يحتملها كلهم، وإن احتملوها بعض الوقت، لن يحتملوها كل الوقت.



وقد يعود السبب إلى فساد الحكم، وطغيان الحكام، وجريهم وراء شهواتهم، وتفريطهم في حقوق شعوبهم. واتباعهم أهواء بطانة السوء في الداخل،والحاقدين على الإسلام في الخارج، مما جعل القرآن والسلطان، أو الدين والدولة في خطين متوازيين لا يلتقيان.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salahaldeen
اديب المنتدى
اديب المنتدى



تاريخ التسجيل : 14/03/2010
العمر : 66

الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحوة الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي)   الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالأربعاء يونيو 16, 2010 4:35 pm


(الثانية)
كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

ضعف البصيرة بحقيقة الدين

ولا ريب أن من الأسباب الأساسية لهذا الغلو، هو ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وقلة البضاعة في فقهه، والتعمق في معرفة أسراره، والوصول إلى فهم مقاصده، واستشفاف روحه.



ولا أعني بهذا السبب: الجهل المطلق بالدين، فهذا في العادة لا يفضي إلى غلو وتطرف، بل إلى نقيضه، وهو الانحلال والتسيب، إنما أعني به: نصف العلم، الذي يظن صاحبه به أنه دخل في زمرة العالِمين، وهو يجهل الكثير والكثير، فهو يعرف نتفاً من العلم من هنا وهناك وهنالك، غير متماسكة، ولا مترابطة، يُعنى بما يطفو على السطح، ولا يهتم بما يرسب في الأعماق، وهو لا يربط الجزئيات بالكليات، ولا يرد المتشابهات إلى المحكمات، ولا يحاكم الظنيات إلى القطعيات، ولا يعرف من فنون التعارض والترجيح ما يستطيع به أن يجمع به بين المختلفات، أو يرجح بين الأدلة والاعتبارات.



ورحم الله الإمام أبا إسحاق الشاطبي، فقد نبه على هذه الحقيقة بوضوح في كتابه الفريد (الاعتصام:2/173 ) فقد جعل أول أسباب الابتداع والاختلاف المذموم المؤدي إلى تفرق الأمة شيعاً، وجعل بأسها بينها شديداً: أن يعتقد الإنسان في نفسه - أو يُعتقد فيه - أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين، وهو لم يبلغ تلك الدرجة، فيعمل على ذلك ويعد رأيه رأياً، وخلافه خلافاً، ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع ـ يعني فروع الدين ـ وتارة يكون في كليّ وأصل من أصول الدين ـ من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، حتى يصير منها ما ظهر له بادي رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع، وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلو، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا [الحديث في الصحيحين من رواية عبد الله عمرو رضي الله عنهما ]



قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله، وقد صرف هذا المعنى تصريفاً، فقيل: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين فخان، قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم.



قال: مالك بن أنسSad بكى ربيعة يوماً بكاء شديداً، فقيل له: مصيبة نزلت بك؟ فقال: لا .. ولكن استفتي من لا علم عنده! )



والحق أن نصف العلم ـ مع العجب والغرور ـ يضر أكثر من الجهل الكلي مع الاعتراف، لأن هذا جهل بسيط، وذلك جهل مركب، وهو جهل من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، ولهذا مظاهر عديدة عند هؤلاء، نذكر أهمها فيما يلي:





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

الاتجاه الظاهري في فهم النصوص

ولا عجب أن رأينا كثيراً من هؤلاء يتمسكون بحرفية النصوص دون تغلغل إلى فهم فحواها ومعرفة مقاصدها، فهم في الحقيقة يعيدون المدرسة الظاهرية من جديد، بعد أن فرغت منها الأمة، وهي المدرسة التي ترفض التعليل للأحكام، وتنكر القياس تبعاً لذلك، وترى أن الشريعة تفرق بين المتماثلين، وتجمع بين المختلفين.



وهذه الظاهرية الحديثة تتبع المدرسة القديمة في إغفالها للعلل، وإهمالها الالتفات إلى المقاصد والمصالح، وتنظم العادات والعبادات في سِلْك واحد، بحيث يؤخذ كل منهما بالتسليم والامتثال، دون بحث عن العلة الباطنة وراء الحكم الظاهر. وكل الفرق بين القدامى والجدد، أن أولئك أعلنوا عن منهجهم بصراحة، ودافعوا عنه بقوة، والتزموه بلا تحرج، أما هؤلاء فلا يسلّمون بظاهريتهم، على أنهم لم يأخذوا من الظاهرية إلا جانبها السلبي فقط، وهو رفض التعليل مطلقاً، والالتفات إلى المقاصد والأسرار.



وأنا مع المحققين من علماء المسلمين في أن الأصل في العبادات هو التعبد بها دون نظر إلى ما فيها من مصالح ومقاصد، بخلاف ما يتعلق بالعادات والمعاملات. (ذكر ذلك الإمام الشاطبي مؤيداً بأدلته الشرعية في كتابيه الموافقات والاعتصام )



فلا يجوز أن يقال: إن إنفاق المال على فقراء المسلمين، أو على المشاريع الإسلامية النافعة، أهم من أداء فريضة الحج الأول، أو يقال:إن التصدق بثمن هدي التمتع والقرآن في الحج أولى من ذبح النسك الذي تعظم به شعائر الله.



ولا يجوز أن يقال: إن الضرائب الحديثة تغني عن الزكاة ثالثة دعائم الإسلام، وشقيقة الصلاة في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ولا يجوز أن يستبدل برمضان شهر آخر للصيام، ولا بيوم الجمعة يوم آخر، ـ كيوم الأحد مثلاً ـ لإقامة الصلاة الأسبوعية المعروفة المفروضة على المسلمين.



ولكن في غير العبادات - والعبادات المحضة خاصة - أي في مجال العادات والمعاملات ننظر إلى العلل، ونلتفت إلى المصالح والمقاصد المنوطة بالأحكام، فإذا اهتدينا إليها ربطنا الحكم بها إثباتاً ونفياً، فإن الحكم - كما قالوا - يدور مع علته وجوداً وعدماً.



تأمل معي هذه النصوص الشريفة:

أ- روى مالك والبخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسافر بالمصحف إلى أرض الكفار أو أرض العدو.

والناظر في علة هذا المنع يتبين له أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينه عن ذلك إلا مخافة أن يستهين به الكفار أو ينالوه بسوء.

فإذا أمن المسلمون ذلك، فلهم أن يصطحبوا المصاحف في أسفارهم إلى غير بلاد الإسلام، بلا حرج، وهذا ما يجري عليه العمل من كافة المسلمين اليوم دون نكير، بل إن أصحاب الديانات المختلفة في عصرنا، ليتنافسون في تسهيل وصول كتبهم المقدسة إلى شتى أنحاء العالم، تعميماً للتعريف بدينهم والدعوة إليه. ويحاول المسلمون أن يلجوا هذا المولج عن طريق ترجمة معاني القرآن حيث لسان الأقوام غير لساننا.



ب- ونص آخر، وهو ما صح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تسافر بغير محرم.

والناظر في علة النهي يراها ماثلة في الخوف على المرأة من أخطار الطريق، إذا سافرت وحدها في الفيافي والقفار، ولم يكن معها رجل يحميها، ممن يؤتمن عليها، ولا يمكن أن تتعرض لها الألسنة بالقيل والقال، وهذا لا يكون إلا الزوج أو المحرم.



فإذا نظرنا إلى السفر في عصرنا وتغير أدواته ووسائله، وجدنا مثل الطائرات التي تسع المئات، وتنقل الإنسان من قطر إلى قطر في ساعات قليلة، فلم يعد هناك إذن مجال للخوف على المرأة إذا ودّعها محرم في مطار السفر، واستقبلها محرم في مطار الوصول، وركبت مع رفقة مأمونة ؛ وهذا ما قرره كثير من الفقهاء في شأن سفر المرأة للحج، فأجازوا لها أن تسافر للحج مع نسوة ثقات، بل مع امرأة واحدة ثقة، أو بدون نساء ولكن مع رفقه تؤتمن عليها.



ولعل مما يشهد لهذا ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أمته بزمن تخرج فيه الظعينة من الحيرة (بالعراق ) إلى الكعبة لا تخاف إلا الله تعالى.



ج- ومما ورد في شأن السفر أيضاً: نهيه عليه الصلاة والسلام، الرجل المسافر أن يطرق أهله ليلاً إذا طالت غيبته عنهم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلاً: يدخل عليهم غدوة أو عشية.



وقد جاءت بعض الروايات تحدد العلة هنا بأمرين:

1- اتقاء أن يظهر الرجل في صورة من يتهم أهله أو يتخونهم ويلتمس عثراتهم. فهو يريد أن يفاجئهم بعودته على غير توقع منهم، لعله يكشف شيئاً مريباً مخبئاً عنه، وهذا سوء ظن لا يرضاه الإسلام للمسلم في العلاقة الزوجية التي يرفعها الإسلام مكاناً علياً.



2- أن يكون لدى المرأة علم بقدوم زوجها، حتى تتجمل له، وتتهيأ بدنياً ونفسياً لاستقباله، وإليه الإشارة في الحديث كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة . وهذا سر التعبير بطول الغيبة في الحديث السابق.



ومن هنا نقول: إن باستطاعة المسافر في عصرنا أن يحضر أي وقت تيسر له من ليل أو نهار، إذا أخبر أهله بطريق الهاتف أو البرق أو البريد أو غيرها، وبخاصة أن المسافر في عصرنا ليس مختاراً دائماً في اختيار الوقت الذي يرجع فيه لأن الطائرات والبواخر ونحوها هي التي تجبره على مواعيدها، وليس هو الذي يختارها، بخلاف راكب الناقة قديماً، فإن مركبه ملكه يتحرك به متى شاء، ويقيل أو يبيت متى شاء، ويعجل أو يؤجل عودته كيف شاء.



وإنما قلت: إن العبادات المحضة لا تعلل، بهذا التقييد، لإخراج الزكاة من هذه الدائرة، لأنها ليست عبادة محضة كالصلاة والصيام والحج، بل هي جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام.



ولهذا تذكر في الفقه مع العبادات باعتبارها ركناً دينياً أساسياً، وتذكر في كتب الخراج والأموال والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية باعتبارها مورداً من الموارد المالية الثابتة في الشرع الإسلامي، ودعامة من دعائم النظام الاقتصادي الإسلامي، ولهذا علل الفقهاء أحكامها، وحددوا علة الوجوب فيها بأنه المال النامي بالفعل أو بالإمكان، ودخل في أحكامها القياس في جميع المذاهب المتبوعة.



ولهذا رجحت القول بوجوب الزكاة ـ العشر أو نصفه ـ في كل ما أخرجت الأرض المزروعة من حب أو ثمر، جافاً كان أو رطباً، مأكولاً أو غير مأكول، لأن العلة في المال قائمة وهي النماء والعلة في نفس صاحب المال قائمة، وهي حاجته إلى التطهر والتزكي تطهر هم وتزكيهم بها والعلة في الفقراء وأهل الحاجة قائمة، وهي أن للفقراء حقاً في أموال الأغنياء، وصاحب الزرع والثمر منهم.

وقد ناقشني بعض هؤلاء الظاهريين بأن هذا خلاف ما تدل عليه النصوص.



قلت: أي نصوص تعني؟

قال: حديث ليس في الخضروات صدقة

قلت: حديث ضعيف، لم يصححه أحد من أئمة الحديث، فلا يحتج بمثله، فضلاً عن أن يخصص به عموم القرآن والسنة. وقد رواه الإمام الترمذي ثم ضعفه، ثم قال: لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال: لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ زكاة من الخضروات .

قلت : لي على هذا جوابان:

أحدهما ما قاله الإمام ابن العربي: أنه لا حاجة إلى نقل مثل هذا، والقرآن يغني عنه، يعني آية الأنعام . (وآتوا حقَّه يومَ حصادِه ).

والثاني : أن عدم أخذه - لو صح - يحمل على أنه تركه لضمائر أصحاب المال يخرجونه بأنفسهم، لصعوبة حفظ الخضروات والفواكه في زمنهم وتعرضها للتلف والفساد.



قال: وحديث آخر تركته يحصر الزكاة في أربعة أشياء: التمر والزبيب والحنطة والشعير.

قلت: هذا الحديث لم يصل إلى درجة الصحة كما قرر ذلك أئمة الحديث انظر كتابنا فقه الزكاة 1/349-358، ولهذا لم يأخذ به أحد من الأئمة المتبوعين، فكيف يقاوم النصوص العامة الثابتة التي أوجبت الزكاة في عموم ما أخرجت الأرض، مثل قوله تعالى:

((يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مِنْ طيبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض )) [البقرة:267 ].

وقوله: ((وهو الذي أنشأ جنّاتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍِ والنخل والزرع مُختلفاً أكله والزيتون والرّمان متشابهاً وغير مُتشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصادِه )) [الأنعام:141] وقوله عليه الصلاة والسلام: فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقي بالساقية نصف العشور [رواه مسلم من حديث جابر ]



وهذه النصوص لم تخص نوعاً من الحاصلات دون نوع، والعلة في التسوية بينها -بإيجاب العشر أو نصفه فيها - بيّنة واضحة. وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وقبله عمر بن عبد العزيز،وهو الموافق لحكمة التشريع.



ورضي الله عن الإمام المالكي المنصف القاضي أبي بكر بن العربي، الذي نصر مذهب أبي حنيفة في هذه القضية، في تفسيره لآية: ((وهو الذي أنشأ جنَّاتٍ )) من كتابه أحكام القرآن وفي شرحه لحديث: فيما سقت السماء العشر في كتابه عارضة الأحوذي في شرح الترمذي .



ومما قاله في التفسير بعد عرض المذاهب ومآخذ استدلالها: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق (أحكام القرآن 2/947 ).

ومما قاله في شرح الترمذي:



وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلاً، وأحوطها للمساكين، وأولاها قياماً بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث (عارضة الأحوذي 3/135 )



والخلاصـــــــة:

إننا إذا لم نرد الأحكام إلى عللها، سنقع في تناقضات خطيرة، نفرق بها بين المتساويات ونسوي بها بين المختلفات، وليس هذا هو العدل الذي قام عليه شرع الله تعالى.



صحيح أن هناك مجترئين يقتحمون حمى هذه الأمور بلا رسوخ ولا بينة، فيلتمسون للأحكام عللاً لم يقم عليها دليل، إنما هي من وحي أهوائهم، وتسويل أنفسهم، ولكن هذا لا يمنعنا أن نقرر الحق لأصحابه، ونفتح الباب لأهله، حذرين ومحذّرين من الدخلاء والمتطفلين.





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

الاشتغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى

ومن دلائل عدم الرسوخ في العلم، ومن مظاهر ضعف البصيرة بالدين: اشتغال عدد من هؤلاء بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية، عن القضايا الكبرى التي تتعلق بكينونة الأمة وهويتها ومصيرها، فنرى كثيراً منهم يقيم الدنيا ويقعدها من أجل حلق اللحية أو الأخذ منها أو إسبال الثياب، أو تحريك الإصبع في التشهد، أو اقتناء الصور الفوتوغرافية أو نحو ذلك من المسائل التي طال فيها الجدال، وكثر فيها القيل والقال.



هذا في الوقت الذي تزحف فيه العلمانية اللادينية، وتنتشر الماركسية الإلحادية، وترسخ الصهيونية أقدامها، وتكيد الصليبية كيدها، وتعمل الفرق المنشقة عملها في جسم الأمة الكبرى، وتتعرض الأقطار الإسلامية العريقة في آسيا وأفريقيا لغارات تنصيرية جديدة يراد بها محو شخصيتها التاريخية وسلخها من ذاتيتها الإسلامية، وفي نفس الوقت يذبح المسلمون في أنحاء متفرقة من الأرض، ويضطهد الدعاة الصادقون إلى الإسلام في بقاع شتى.



والعجيب أني وجدت الذين هاجروا أو سافروا إلى ما وراء البحار في أمريكا وكندا وأوروبا، لطلب العلم أو طلب الرزق، قد نقلوا هذه المعارك الجانبية إلى هناك.



وكثيراً ما رأيت بعيني، وسمعت بأذني، آثار هذا الجدل العنيف، وهذا الانقسام المخيف بين فئات المسلمين، حول تلك المسائل التي أشرنا إلى بعضها وما يشبهها من قضايا اجتهادية ستظل المذاهب والآراء تختلف فيها، وهيهات أن يتفق الناس عليها.



وكان الأولى بهؤلاء أن يصرفوا جهودهم إلى ما يحفظ على المسلمين وناشئتهم أصل عقيدتهم، ويربطهم بأداء الفرائض، ويجنبهم اقتراف الكبائر، ولو نجح المسلمون في تلك الأقطار الأجنبية في هذه الثلاث: حفظ العقيدة، وأداء الفرائض، واجتناب الكبائر، لحققوا بذلك أملاً كبيراً وكسباً عظيماً.



ومن المؤسف حقاً أن من هؤلاء الذين يثيرون الجدل في هذه المسائل الجزئية وينفخون في جمرها باستمرار، أناساً يعرف عنهم الكثيرون ممن حولهم، التفريط في واجبات أساسية مثل: بر الوالدين، أو تحري الحلال، أو أداء العمل بإتقان، أو رعاية حق الزوجة، أو حق الأولاد، أو حق الجوار، ولكنهم غضوا الطرف عن هذا كله، وسبحوا بل غرقوا في دوامة الجدل الذي أصبح لهم هواية ولذة، وانتهى بهم إلى اللدد في الخصومة والمماراة المذمومة.



وهذا النوع من الجدل هو الذي أشار إليه الحديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح ).



ويذكرني هذا بما رواه لي بعض الإخوة في أمريكا عن أحد الذين ارتفعت أصواتهم بالإنكار على أكل اللحوم المذبوحة من طعام أهل الكتاب، مما أفتى بحله عدد من العلماء قديماً وحديثاً، وكان هذا من أعلاهم صوتاً، وأكثرهم تشدداً، وهو في الوقت نفسه - كما روى لي الثقات - لا يبالي أن تكون الخمر على مائدته، فهذه نقرة، وتلك نقرة، يعني أنه يتشدد ويتوقف في المشتبه فيه والمختلف عليه، على حين يقتحم حمى المحرمات اليقينية الصريحة بلا توقف ولا مبالاة‍‍‍‍ !!



ومثل هذا الموقف المتناقض ـ الاجتراء على الكبائر والوسوسة في التوافه ـ هو ما أثار الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث سأله مَنْ سأله مِنْ أهل العراق عن دم البعوض ونحوه بعد قتل السبط الشهيد سيد الشباب: الحسين بن علي رضي الله عنهما.



فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن أبي نعم قال:

جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس، فسأله عن دم البعوض؟ - وفي طريق أخرى للحديث أنه سأله عن محرم قتل ذبابا ً - فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. قال: ها! انظروا إلى هذا، يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني الحسين رضي الله عنه ) وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما ريحانتاي من الدنيا (أخرجه أحمد، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح ).





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

الإســـــراف في التحــــريم

ومن دلائل هذه الضحالة، وعدم الرسوخ في فقه الدين، والإحاطة بآفاق الشريعة: الميل دائماً إلى التضييق والتشديد والإسراف في القول بالتحريم، وتوسيع دائرة المحرمات، مع تحذير القرآن والسنة والسلف من ذلك.



وحسبنا قوله تعالى: ((ولا تقولوا لِما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، لِتفتروا على الله الكذِب إنّ الذين يفترون على الله الكذِب لا يُفلِحون )) [النحل:116 ].



وكان السلف لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزماً، فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا: نكره كذا، أو لا نراه، أو نحو ذلك من العبارات، ولا يصرحون بالتحريم، أما الميالون إلى الغلو، فهم يسارعون إلى التحريم دون تحفظ، بدافع التورع والاحتياط، إن أحسنا الظن، أو بدوافع أخرى، يعلم الله حقيقتها.



فإذا كان في الفقه رأيان: أحدهما يقول بالإباحة والآخر بالكراهة، أخذوا بالكراهة، وإن كان أحدهما بالكراهة، والآخر بالتحريم، جنحوا إلى التحريم.



وإذا كان هناك رأيان: أحدهما ميسر، والآخر مشدد، فهم دائماً مع التشديد، مع التضييق، هم دائماً مع شدائد ابن عمر، ولم يقفوا يوماً مع رخص ابن عباس، وكثيراً ما يكون ذلك لجهلهم بالوجهة الأخرى، التي تحمل الترخيص والتيسير.

رأى أحدهم رجلا يشرب قائماً، فزجره بعنف وقال له:



اقعد، فقد خالفت السنة، واقترفت أمراً منهيا عنه، ولم يفهم الرجل هذه الضجة، فلم يجلس، فقال له صاحبنا:عليك ـ إن كنت مسلماً ـ أن تتقيأ ما شربته!

قلت له برفق: الأمر لا يستحق كل هذا الزجر والتغليظ، فالمسألة - أعني جواز الشرب قائماً - خلافية، والمسائل الخلافية لا يجوز فيها الإنكار، وإن جاز فيها الإنكار، لا يجوز فيها التشديد والتغليظ.



قال: ولكن الحديث صريح في النهي عن الشرب قائماً، ومن نسي فليستقئ . وهو في الصحيح.

قلت: ولكن أحاديث جواز الشرب قائماً أصح وأثبت، ولهذا أخرجها البخاري تحت عنوان باب الشرب قائما ً ولم يخرج من أحاديث النهي شيئاً؛ وروى الترمذي وغيره جواز الشرب قائماً من حديث عدد من الصحابة.



كما أن الشرب قائماً ثبت عنه في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم ، فقد فعله في حجة الوداع، كما رواه ابن عباس وهو في الصحيحين؛ وروى الشيخان عن عليّ: أنه توضأ، ثم قام فشرب فضل وضوئه وهو قائم، ثم قال: إن أناساً يكرهون الشرب قائماً. وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت يعني: شرب فضل وضوئه قائماً كما شربت.



وصحح الترمذي من حديث ابن عمر قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام.

وصحح أيضاً عن كبشة قالت: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فشرب من قِربة معلقة .



وثبت الشرب قائماً عن عمر، وفي الموطأ: أن عمر وعثمان وعلياً كانوا يشربون قياماً، وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأساً ، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين.



ذكر ذلك كله الحافظ في الفتح ثم ذكر مسالك العلماء في هذه المسألة مع تعارض الظواهر فيها، فمنهم من رجح أحاديث الجواز لأنها أثبت من أحاديث النهي، وبخاصة أن من روي عنهم النهي روي عنهم الجواز.



ومنهم من قال: إن أحاديث الجواز ناسخة لأحاديث النهي، لتأخرها وتأكدها بفعل الخلفاء الراشدين.

ومهم من أوّل النهي بأنه محمول على كراهة التنزيه، وأن الهدف منه الإرشاد إلى ما هو الأوفق والأليق.

وإن أمراً فيه كل وجهات النظر هذه لا يجوز أن ينكر على من فعله، بله أن يغلظ عليه.



ومثل ذلك قضية تقصير الثوب الذي التزمه كثير من الشباب المتدين، رغم ما جر عليهم من متاعب أسرية واجتماعية، بدعوى أن لبس الثوب إذا زاد عن الكعبين، فهو حرام، وحجتهم الحديث الصحيح؛ ما أسفل من الكعبين فهو في النار والأحاديث التي جاءت بالوعيد الشديد لمن يسبل إزاره، ومن يجر ثوبه.



ولكن هذه الأحاديث المطلقة قد قيدتها أحاديث أخر، حصرت هذا الوعيد فيمن فعل ذلك على سبيل الفخر والخيلاء، والله لا يحب كل مختال فخور.



نقرأ في حديث ابن عمر في الصحيح : من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة وحديثه الآخر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول من جر إزاره، لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة (رواهما مسلم ).



وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ، حيث قال:إن إزاري يسترخي،إلا أن أتعاهده: إنك لست ممن يفعله خيلاء... ولهذا ذهب النووي وغيره إلى كراهية الإسبال ونحوه، والكراهة تزول لأدنى حاجة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salahaldeen
اديب المنتدى
اديب المنتدى



تاريخ التسجيل : 14/03/2010
العمر : 66

الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحوة الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي)   الصحوة  الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي) Emptyالأربعاء يونيو 16, 2010 4:39 pm


(الثالثة)
كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

التباس المفاهيـــــــم

وقد أدى هذا الغبش في فهم الإسلام، وعدم وضوح الرؤية لأصول شريعته، ومقاصد رسالته، إلى التباس كثير من المفاهيم الإسلامية، واضطرابها في أذهان الشباب أو فهمها على غير وجهها.



ومنها: مفاهيم مهمة يلزم تحديدها وتوضيحها لما يترتب عليها من آثار بالغة الخطورة في الحكم على الآخرين وتقويمهم، وتكييف العلاقة بهم، وذلك مثل: مفاهيم الإيمان والإسلام، والكفر والشرك، والنفاق والجاهلية ونحوها.



إنّ قوماً لم يتذوقوا اللغة ولم يُدركوا أسرارها، خلطوا في هذه المفاهيم بين الحقيقة والمجاز، فاختلطت عليهم الأمور،والتبست عليهم السبل، واضطربت الموازين. إنهم لم يفرقوا بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، وبين الإسلام الكامل ومجرد الإسلام. ولم يميزوا بين الكفر الأكبر المخرج عن الملة، وكفر المعصية. ولا بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ولا بين نفاق العقيدة ونفاق العمل، وجعلوا جاهلية الخُلق والسلوك كجاهلية العقيدة سواء.



ومن هنا يجب إلقاء بعض الضوء على هذه المفاهيم ـ التفصيل موعده كتابنا المرتقب عن قضية التكفير إن شاء الله ـ حتى لا يُفضي الغبش فيها إلى خطر جسيم. فالإيمان إذا أطلق ينصرف إلى الكامل، وهو ما يجمع بين تصديق الجنّان، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح والأبدان،وهذا هو الإيمان المذكور في مثل قوله تعالى: ((إنّما المؤمِنون الذين إذا ذُكر الله وجِلتْ قلوبهم.. )) [الأنفال:2 ] وقوله: ((قدْ أفلحَ المؤمِنُون الذين هُم في صلاتِهمْ خاشِعون.. )) [المؤمنون:1 ].



وقوله: ((إنّما المؤمِنون الذين آمنوا بالله ورسولِه ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفُسِهم في سبيل الله أولئك هم الصّادِقون )) [الحجرات:15 ]



وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه.. فليقل خيراً أو ليصمت .

وهو المنفي في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وقوله: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن .



فالنفي هنا ينصب على كمال الإيمان لا على أصل الإيمان، كما تقول، ليس برجل من لا يغار على أهله، وليس بعالم من لم يعمل بعلمه، فالنفي هنا لكمال الرجولة لا لأصلها، ولكمال العلم لا لأصله، وهذا الإيمان الكامل هو الذي أخبر عنه الحديث: أنه بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان .



وهو الذي ألف فيه الإمام أبو بكر البيهقي كتابه الجامع لشعب الإيمان وهي شعب تشمل أصل الشجرة،وهي العقائد، وتشمل الفروع والثمار من العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب. فمن ضيّع الأصل بالكلية، فقد انتفى عنه مطلق الإيمان، ومن ضيع بعض الفروع وأصل الإيمان باق، فقد انتفى عنه من كمال الإيمان بقدر ما ضيع منها، ولكن لا نحكم عليه بالكفر. وأصل الإيمان هو ما جاء في حديث جبريل: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر .



وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن السلف قالوا: الإيمان هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان،وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ لهم القول بأنه يزيد وينقص. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف: أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله، قال: وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإيمان الإقرار فقط. فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر، إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره، كالسجود للصنم. فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر، فبالنظر إلى أنه فعل فِعْل الكافر، ومن نفى عنه فبالنظر إلى حقيقته. اهـ



والإسلام قد يطلق على مجرد إعلان الشهادتين، وهما باب الدخول في الإسلام، فالكافر إنما يدخل الإسلام، ويصبح في عداد المسلمين بمجرد نطقهما قبل أن يؤدي الصلاة أو الزكاة أو غيرهما، إذ هذه العبادات لا تقبل إلا من مسلم، وإنما يكفي أن يقر بهذه الفرائض ويلتزم بها، وإن لم يؤدها بالفعل، وهذه الشهادة هي التي تعصم دم الإنسان وماله، كما في الحديث: فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله .



وقد يطلق الإسلام على الأركان الأساسية فيه، وهي التي جاء فيها حديث ابن عمر المشهور بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.



وهي التي فسر بها رسول الله الإسلام في حديث جبريل المعروف حين قال: أخبرني عن الإسلام فقال: الإسلام: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان .



وهنا نجد في حديث جبريل الفرق بين مفهومي الإيمان والإسلام، أما إذا اقترنا في الذكر، فكل واحد منهما يتضمن الآخر، وهما متلازمان في الواقع، فلا يوجد إيمان بلا إسلام، ولا إسلام بلا إيمان. فالإيمان يتعلق بالقلب، والإسلام يتعلق بالجوارح والظواهر، وهذا ما جاء في الحديث: الإسلام علانية، والإيمان في القلب [رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح ]



وهو ما تدل عليه آية سورة الحجرات: ((قالتِ الأعراب آمنَّا قُل لم تؤمِنوا ولكن قولوا: أسلمْنا ولمّا يدخلِ الإيمان في قلوبكم )).

وقد يطلق الإسلام في موضع آخر، ويراد به أيضاً الإسلام الكامل، كما في حديث: الإسلام أن يسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك وحديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وحديث وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً وغيرها من الأحاديث...



أما الكفر فقد يرد في لسان الشرع بمعنى الجحود والتكذيب لله ولرسالاته، كما في قوله تعالى: ((ومنْ يكفر بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيداً )) [النساء:136 ] وقد يطلق بمعنى الردة عن الإسلام، والخروج من حظيرة الإيمان، كما في قوله تعالى: ((ومنْ يكفر بالإيمان فقد حبِط عمله وهو في الآخِرة مِن الخاسِرين )) [المائدة:5 ] وقوله: ((ومن يرتدِدْ مِنكم عنْ دينه فيمُتْ وهو كافرٌ فأولئك حبِطتْ أعمالهم في الدنيا والآخِرة وأولئك أصحاب النار همْ فيها خالِدون )) [البقرة:217 ].



وقد تطلق كلمة الكفر على بعض المعاصي العملية التي لا تحمل إنكاراً ولا جحوداً ولا تكذيباً لله ورسوله.

يقول العلامة ابن القيم في كتابه مدارج السالكين :

الكفر نوعان: أكبر وأصغر.

فالكفر الأكبر: هو الموجب للخلود في النار.

والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود. كما في الحديث اثنتان في أمتي، هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة وقوله في السنن: من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد وفي الحديث الآخر: من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد وقوله: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى: ((ومَنْ لم يحْكم بِما أنْزل الله فأولئك همُ الكافِرون )) [المائدة:44 ] قال ابن عباس: ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وكذلك قال طاووس، وقال عطاء: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق .



ومنهم: من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو قول عكرمة. وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم.

ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله، قال: ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام، وهذا تأويل عبد العزيز الكناني، وهو أيضاً بعيد، إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل، وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.

ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص، تعمداً من غير جهل به ولا خطأ في التأويل، حكاه البغوي عن العلماء عموماً.

ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب، وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما، وهو بعيد، وهو خلاف ظاهر اللفظ، فلا يصار إليه.

ومنهم: من جعله كفراً ينقل عن الملّة.



قال ابن القيم:

(والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر، بحسب حال الحاكم؛ فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه. مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطئ، له حكم المخطئين.



والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي: إما شكر، وإما كفر، وإما ثالث، لا من هذا ولا من هذا، والله أعلم ).

والشرك كذلك منه ما هو أكبر، وهو دعاء إله أو آلهة مع الله أو من دون الله، وهو الذي جاء فيه قوله تعالى:

((إنّ الله لا يغْفِر أن يُشرك به ويغفِر ما دون ذلِك لِمنْ يشاء )) [النساء:48 ].



ومنه ما هو أصغر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك (أبو داود والترمذي والحاكم ) وقوله: من علَّق ـ أي : تميمة - فقد أشرك [رواه أحمد والحاكم ].

وقوله : إن الرقى والتمائم والتّولة شرك . [رواه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد )



وكذلك النفاق، منه النفاق الأكبر، نفاق العقيدة، وهو : أن يبطن الكفر، ويظهر الإيمان خداعاً وكذباً، وهو المذكور في أوائل سورة البقرة ((ومِن الناس منْ يقول آمنّا بالله وباليوم الآخِر وما هم بِمؤمِنين. يخادعون الله والذين آمنوا )) [البقرة:8-9 ] ((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنّا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنّا معكم إنما نحن مستهزئون )) [البقرة:14 ].

وهو المذكور أيضاً في أول سورة المنافقون وفي غيرها.



وهذا النفاق هو المتوعد عليه في قوله تعالى: ((إنّ المُنافِقين في الدّرك الأسفل مِن النّار ولنْ تجد لهُم نصيراً )) [النساء:145 ].

وهناك النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، بمعنى أن يتصف المرء المسلم بصفات المنافقين وأخلاقهم، ولكن قلبه مؤمن بالله ورسوله وباليوم الآخر.



وهذا ما جاءت به، الأحاديث مثل: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان [متفق عليه من حديث أبي هريرة ].



وحديث: أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب،وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر [متفق عليه من حديث عبد الله ابن عمرو ]



وهذا النفاق هو الذي كان يخافه الصحابة والسلف على أنفسهم، وقالوا : ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن!





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

اتباع المتشابهات وترك المحكمات

ولابد لنا أن نشير هنا إلى سبب أساسي وراء الغلو والانحراف في فهم الدين قديماً وحديثاً، وهو: اتباع المتشابهات من النصوص، وترك المحكمات البينات، وهذا لا يصدر من راسخ في العلم، إنما هو شأن الذين في قلوبهم زيغ ((فيتّبعون ما تشابه مِنه ابتِغاء الفتنةِ وابتِغاء تأويله )) [آل عمران:7 ].



وأعني بالمتشابه: ما كان محتمل المعنى، وغير منضبط المدلول، وأعني بالمحكم: البين المعنى، الواضح الدلالة، المحدد المفهوم.

فترى الغلاة والمبتدعين من قديم يجرون وراء المتشابهات، يملئون بها جعبتهم، ويتخذون منها عدتهم، معرضين عن المحكمات وهي التي فيها القول الفصل، والحكم العدل.



وانظر إلى غلاة اليوم تجدهم يعتمدون على المتشابهات في تحديد كثير من المفاهيم الكبيرة التي رتبوا عليها نتائج خطيرة، بل بالغة الخطر، في الحكم على الأفراد والجماعات، وتقويمهم، وتكييف العلاقة بهم من حيث الولاء والعداء، والحب والبغض، واعتبارهم مؤمنين يُتولّون، أو كفاراً يقاتلون.



وهذه السطحية في الفهم، والتسرع في الحكم، وخطف الأحكام من النصوص خطفاً دون تأمل ولا مقارنة - نتيجة لترك المحكمات البينات، واتباع المتشابهات المحتملات - هي التي جعلت طائفة الخوارج قديماً تسقط في ورطة التكفير لمن عداهم من المسلمين، وتقاتل رجل الإسلام العظيم على بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد كانوا جنوداً في جيشه، مستندين إلى أفهام عجيبة، بل أوهام غريبة، في دين الله تعالى.



قبل علي كرم الله وجهه التحكيم في النزاع الذي بينه وبين خصومه، حقناً لدماء المسلمين، ومحافظة على وحدة جيشه، حيث كان فيه من يرى وجوب القبول؛ فظهر هؤلاء الحمقى يتهمونه - وهو الذي نشأ في نصرة دين الله منذ صباه - بالخروج من الدين؛ لأنه حكم الرجال في دين الله. ورددوا كلمتهم المعروفة: لا حكم إلا لله ! معتمدين على ظاهر القرآن الكريم حيث يقول: ((إن الحُكم إلاّ للهِ )) [يوسف:40 ].



وكان رد الإمام علي عليهم بكلمته التاريخية المأثورة: كلمة حق يراد بها باطل!

ذلك أن ردّ الحكم إلى الله وحده -سواء كان حكماً كونياً أو شرعياً، بمعنى أن التدبير لله والتشريع لله وحده - لا يعني إبطال تحكيم البشر في القضايا الجزئية التي يتنازع الناس فيها مادام تحكيمهم في إطار حكم الله وتشريعه.

وقد ناقش حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هؤلاء القوم، وحجهم بما في كتاب الله من صور التحكيم.

من ذلك التحكيم بين الزوجين لحل عقدة الخلاف بينهما ((وإن خِفتم شِقاق بينِهما فابعثوا حكماً مِنْ أهلِه وحكماً مِن أهلِها إن يُريدا إصلاحاً يُوفِّق الله بينهما )) [النساء:35 ].



ومن ذلك التحكيم في تقدير مثل الصيد يقتله محرم متعمداً ((يا أيُّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرمٌ ومَنْ قلته مِنكم مُتعمِّداً فجزاء مِثْل ما قتَل مِن النّعم يحكم به ذوا عدْلٍ مِنكم هدياً بالِغ الكعبة أو كفّارة طعام مساكين... )) [المائدة:95 ].



فمن لم يحسن الفهم عن الله ورسوله فيما جاء من آيات أو من أحاديث، ولم يقف طويلاً عندها دارساً فاحصاً، متأملاً متفقهاً، جامعاً بين أولها وآخرها، وموفقاً بين مثبتها ونافيها، ومقارناً بين خاصها وعامها، أو بين مطلقها ومقيدها، مؤمناً بها كلها، محسناً الظن بها جميعاً - محكمها ومتشابهها - من لم يفعل ذلك فما أسرع ما تضل راحلته، ويعمى عليه طريقه، وتضيع منه غايته فيشرّق مرة ويغرّب أخرى على غير بصيرة، ويخبط خبط عشواء في ليلة مظلمة.



وهذا هو الذي وقع فيه دُعاة التكفير حديثاً، ووقع فيه الخوارج قديماً. والسبب الأساسي لهذا الغلو - كما ذكر الإمام الشاطبي - هو الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم؛ ألا ترى إلى الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يعني -والله أعلم - أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم، لأن الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال، وهذا يقف عند محل الأصوات والحروف فقط، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم. وما تقدم أيضاً من قوله عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً إلى آخره..



وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه، فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن، وسعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة - زاد سعيد: وكتابها واحد؟ - قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان كذلك اختلفوا.



وقال سعيد: فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا! قال: فزجره عمر وانتهره عليّ.. فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه. . فأرسل إليه وقال: أعد علي ما قلته، فأعاد عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه.

قال العلامة الشاطبي:



وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآي أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً، فذهب كل إنسان فيها مذهباً لا يذهب إليه الآخر، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئاً، إذ لا دليل عليه من الشريعة، فضلّوا وأضلوا.



ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعاً: كيف رأي ابن عمر في الحرورية؟ (هم الخوارج، نسبوا إلى حروراء، المكان الذي تجمعوا عنده وقاتلهم هناك علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم ) قال: يراهم شرار خلق الله؛ إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.. فسرّ سعيد بن جبير من ذلك فقال: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالىSad(ومَنْ لمْ يحكم بِما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) [المائدة:44 ] ويقرنون معها ((ثمّ الذين كفروا بربِّهم يعْدِلون )) [الأنعام:1 ] فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون، فيخرجون فيقتلون ما رأيت لأنهم يتأولون هذه الآية. فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.



وقال نافع: إن ابن عمر كان إذا سئل عن الحرورية قال: يكفرون المسلمين، ويستحلون دماءهم وأموالهم، وينكحون النساء في عِدَدهن، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحداً أحق بالقتال . منهم (الاعتصام: 2/182-184 ).





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

لا تأخذ العلم من صُحُفي ولا القرآن من مصحفي

ومن أسباب ضعف البصيرة عند هؤلاء: أنهم لا يسمعون لمن يخالفهم في الرأي، ولا يقبلون الحوار معه، ولا يتصورون أن تتعرض آراؤهم للامتحان، بحيث توازن بغيرها، وتقبل المعارضة والترجيح.



وكثير منهم لم يتلق العلم من أهله وشيوخه المختصين بمعرفته، وإنما تلقاه من الكتب والصحف مباشرة، دون أن تتاح له فرصة المراجعة والمناقشة والأخذ والرد، واختبار فهمه ومعلوماته ووضعها على مشرحة التحليل، وطرحها على بساط البحث... ولكنه قرأ شيئاً وفهمه واستنبط منه، وربما أساء القراءة، أو أساء الفهم، أو أساء الاستنباط، وهو لا يدري.



وربما كان ثمة معارض أقوى وهو لا يعلم، لأنه لم يجد من يوقفه عليه، وغفل هؤلاء الشباب المخلصون أن علم الشريعة وفقهها لا بد أن يرجعوا فيه إلى أهله الثقات، وأنهم لا يستطيعون أن يخوضوا هذا الخضم الزاخر وحدهم، دون مرشد يأخذ بأيديهم، ويفسر لهم الغوامض والمصطلحات، ويرد الفروع إلى أصولها، والنظائر إلى أشباهها.



فأما من سبح في هذا البحر وحده، ولم يكن حاذقاً في السباحة، فيخشى عليه أن تتقاذفه الأمواج، ويأخذه التيار إلى غير ما يريد، وكثيراً ما يبتلعه اليمّ، ولا يصل إلى الشاطئ المنشود، ولا يجد من ينقذه، لأنه مضى وحده دون معين أو دليل، وهكذا دراسة الشريعة بغير معلم، لا تسلم من مخاطرات، ولا تخلو من ثُغرات وآفات، لا تتضح إلا بالممارسة والاحتكاك، وخصوصاً عند مفارق الطرق، ومواضع الاشتباه، وتعارض الأدلة والاعتبارات.



وهذا ما جعل علماء السلف يحذرون من تلقي العلم عن هذا النوع من المتعلمين، ويقولون: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا العلم من صُحُفي. يعنون بالمصحفي: الذي حفظ القرآن من المصحف فحسب، دون أن يتلقاه بالرواية والمشافهة من شيوخه وقرائه المتقنين.

ويعنون بالصُحُفي: الذي أخذ العلم من الصحف وحدها من غير أن يتتلمذ على أهل العلم، ويتخرج على أيديهم.





كتب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

لماذا أعرض الشباب عن العلماء

وهنا نجد من الإنصاف أن نقول: إن بعض الشباب إنما اعتمدوا على الكتب، لفقدانهم الثقة بأكثر المحترفين من رجال العلم، وخاصة المقربين من السلطان منهم، فهم عندهم في موضع الاتهام، لأنهم يمالئون الحاكم رغم علمهم بأنه لا يحكم بما أنزل الله، وهم لم يكتفوا بأن يسكتوا عن أن يقولوا للظالم: يا ظالم، بل قالوا له: ما أعْدَ لك وما أعظمك أيها البطل! فليتهم إذ سكتوا عن الحق لم ينطقوا بالباطل! فلا غرو أن وجدوا الأموات أوثق وآمن من الأحياء، فلجئوا إلى كتبهم يأخذون عنها دون وسيط.



قلت لأحد هؤلاء: يجب أن تأخذوا العلم من أهله، وتسألوا أهل الذكر من العلماء فيما لا تعلمون.

قال: وأين نجد هؤلاء العلماء الذين نطمئن إلى دينهم وعلمهم؟ إننا لا نجد إلا هؤلاء الذين يدورون في فلك الحكام، إن أرادوا الحل حللوا، وإن أرادوا الحرمة حرموا؛ إذا كان الحاكم اشتراكياً باركوا الاشتراكية ووصلوا نسبها بالإسلام، وإذا كان رأسمالياً أيدوا الرأسمالية باسم الإسلام!



العلماء الذين إذا أراد حاكمهم الحرب فالسلم حرام ومنكر، وإذا تغيرت سياسته فأراد السلم، صدرت الفتاوى بالتبرير والتأييد ((يُحِلُّونه عاماً ويحرِّمونه عاما ً))

العلماء الذين سوّوا بين الكنيسة والمسجد، وبين الهند الوثنية وباكستان الإسلامية!



قلت له: لا ينبغي أن نحمّل الكل ذنب البعض، وأن نأخذ المحسنين بتقصير المسيئين،فمن العلماء من رفض الباطل، ومن تصدى للظلم، ومن أبى الانحناء للطاغوت، ومن قاوم إغراء الوعد وإرهاب الوعيد، واحتمل العذاب ، وصبر على البلاء، ورضي بالسجن والتنكيل، بل رحب بالشهادة في سبيل الله، ولم يقبل المساومة على دينه، أو التهاون في شأن عقيدته.



قال الشاب: لا أجحد هذا، ولكن المسيئين هم الكبار المرموقون، والقادة المسؤولون الذين بأيديهم مقاليد الفتوى والتوجيه والإرشاد.

ولا ريب أن مع الشباب كثيراً من الحق فيما قالوا: فقد أصبح كثير من العلماء الكبار أدوات في يد السلطان، إن شاء أن ينطقوا بما يريد من شأنٍ نطقوا وأفصحوا، وإن شاء أن يصمتوا صمتوا حيث يجب البيان، ويحرم الكتمان، والساكت عن الحق كالناطق بالباطل، كلاهما شيطان.



دعي أحد العلماء اللامعين إلى ندوة تليفزيونية في أحد الأقطار، تدور المناقشة فيها حول موضوع تحديد النسل في نظر الشريعة الإسلامية، وكانت دهشة الرجل المكلف بإدارة الندوة بالغة حين قال له هذا العالم: هل تهدف الندوة إلى تأييد التحديد أو معارضته حتى أهيئ نفسي؟!



ورحم الله العلماء السابقين الذين قال أحدهم للباشا: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه!

وليت هؤلاء حين قلّ زادُهم من اليقين والتقوى كثر زادهم من العلم والفقه!

كلا لقد احتك هؤلاء الشباب الحريصون على التفقه في دينهم بكثير من العلماء اللامعين في سماء الخطابة أو الكتابة، فلم يجدوا لهم قدماً راسخة في علم الكتاب والسنة، ووجدوا ما عندهم من العلم لا يشفي علة، ولا ينقع غُلة. كتب بعضهم في صحيفة سيارة ينادي بأن لا ربا بين الحكومة ورعاياها، وحجته التي خيل إليه أنه بها أتى بما لم تأت به الأوائل: القياس - فيما زعم - على أن لا ربا بين الوالد وولده، وهذا الحكم مختلف فيه، ولم يثبت بنص ولا إجماع، فكيف يعتبر أصلاً يقاس عليه؟ ولو صح أن يقاس عليه كان هذا قياساً مع الفارق.



لقد كان الشباب معذوراً حين يئس من أمثال هؤلاء، الذين حرموا من العلم والورع معاً.



لقد وجدوا أن من هؤلاء من يحتج بالأحاديث الموضوعة، ويرد الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، رأوا منهم من يستشهد بالإسرائيليات، ويستدل بالمنامات، وليس في رأسه إلا القصص والحكايات! رأوا منهم من يؤيد البدع الرائجة، ويرفض السنن الثابتة، ويتملق أهواء العوام وشهوات الخواص ولا يلجأ في العلم إلى ركن وثيق، فلهذا نفضوا أيديهم منهم، ولم يَعُدْ لهم ثقة بما يصدر عنهم.

حتى بعض العلماء الذين كان لهم سمعة طيبة عند الشباب، وقعوا في شرك التأييد للسلطان الذي نصبته لهم الأجهزة الإعلامية الماهرة، وحملوا على الشباب بشدة دون أن يسمعوا دفاعهم، أو يعرفوا حقيقة مواقفهم.



ويكفي هنا أن أضرب مثلاً لما قاله أحد العلماء المشهورين معلقاً على ما حدث لشباب الجماعات الإسلامية في مصر، بعد تجميد نشاطهم، واعتقال أعداد كبيرة منهم، وتقديمهم للمحاكمات.



قال: لو كان هؤلاء حقيقة أنصار إسلام ما خذلهم الله .. لو كانوا فعلاً أنصار إسلام، والله راض عما كانوا يفكرون فيه ويهدفون إليه، ما كانت قوة ـ لا بوليس ولا جيش ـ وقفت أمامهم، ولكن لأنهم ليسوا كذلك هزمهم الله قبل أن يهزمهم البشر.

قال الشيخ هذا الكلام ليقرر به قاعدة تتخذ مقياساً لمعرفة المحق من المبطل، فمن خذل وانهزم دل على أنه كان على باطل، لأن الله لم ينصره. ومن كان النصر والنجاح حليفه دل ذلك أنه على حق.



وهذا كلام مرفوض شرعاً وقدراً، فإن للنصر أسباباً وشروطاً قد لا تتوافر كلها لصاحب الحق، فيتخلف النصر عنه.. وقد تتهيأ للمبطل ظروف تمكنه من النجاح إلى حين.. قد يقصر أو يطول.

وكم رأينا في عصرنا من دعاة للباطل تغلبوا ونجحوا، ومن دعاة للحق أخفقوا وهزموا، لأن القوى العالمية كانت مع الأولين، وضد الآخرين، وأمامنا إسرائيل مثالاً واضحاً لما نقول.



ومن منا يجهل كيف سُحق الشعب التركي المسلم - بقيادة علمائه - أمام طغيان أتاتورك وزمرته؟ وكيف طرد الإسلام من دار الخلافة، وفرضت العلمانية اللادينية على شعب تركية بالحديد والنار؟ فمن كان من الفريقين على الحق ومن كان على الباطل؟



وبالأمس القريب، في بعض البلاد الإسلامية قُتل العلماء، وحُرقوا بالنار، لأنهم قاوموا قانونا يتعلّق بأحوال الأسرة، حاولت السلطة أن تفرضه على الشعب المسلم، فيه تبديل لشرع الله، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويبطل ما أوجب الله، فلما قال العلماء: لا، كان جزاؤهم الموت، حتى يكونوا عبرة لغيرهم، فلا يرتفع لأحد بعدهم رأس، ولا يسمع لمعارض صوت.



وانتصرت السلطة الطاغية، وسكت صوت العلماء، ومعهم صوت الشعب. فهل كانت السلطة على حق، والعلماء على باطل؟

وفي بلد إسلامي آخر، تتحكم الأقلية الكافرة في الأكثرية المسلمة وتسوق الألوف من المسلمين والمسلمات إلى السجون، حتى يخرس كل صارخ، ويستكين كل معاند، ولا يقول لأحد: كيف؟ و لم؟ فضلاً عن لا . فإذا ضاقت السجون بمن فيها خففوا أعدادها بتوجيه الرشاشات إلى صدور من فيها، وإذا وجدوا الرجال المسلمين لا يبالون بالموت، اتخذوا معهم أسلوباً آخر لقهرهم واذلالهم، أسلوباً لم يقدم عليه جنكيز خان ولا هولاكو، ولا غيرهما من جبابرة التاريخ السفاحين: أن يعتدوا على أعراضهم أمام أعينهم.



فيالله، كم من دماء معصومة سفكت، وكم من أعراضٍ مصونة هتكت، وكم من حرمات مقدسة قد انتهكت، وكم من مساجد عريقة هدمت، وكم من أموال نفيسة نهبت، وبيوت عامرة خربت، ومدن دمرت على أهلها، قتل تحت أنقاضها من قتل، وشرد من شرد، من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وكم من أطفال برآء في عمر الزهر، ودون سن التمييز، لا يعرفون ولا يعرف أحد من الناس، من أي أسرة هم، ولا من آباؤهم وأمهاتهم؟



لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان!

لقد قُهر الشعب المسلم أمام جبروت الطاغوت! فمن منهما على الحق، ومن على الباطل؟

وفي سائر عصور التاريخ حدث هذا، انهزم أبو الشهداء، سبط النبي، الحسين بن علي رضي الله عنه أمام جيش ابن زياد والى يزيد، وبقيت دولة بني أمية لعشرات السنين ولم يكن لآل البيت حظ في الخلافة حتى بعد قيام دولة بني العباس أبناء عمومتهم.



فهل نتخذ من هذا دليلاً على أن يزيد كان على حق والحسين على باطل؟!

وبعد ذلك بسنوات انهزم العالم القائد الشجاع عبد الله بن الزبير - أحد العبادلة الأربعة - أمام جيش الحجاج جبار بني أمية، بعد أن ظل في الحجاز وما حولها بضع سنين ينادى بخليفة المسلمين وأمير المؤمنين.



وبعده سُحق القائد الثائر عبد الرحمن بن الأشعت ومعه مجموعة من كبار العلماء مثل سعيد بن جبير، والشعبي، ومطرف بن عبد الله وغيرهم، سحقهم الحجاج الطاغية وقتل منهم من قتل، مثل: سعيد بن جبير الذي قال عنه الإمام أحمد: قتل سعيد وما على الأرض مسلم إلا وهو محتاج إلى علمه.



فهل هزيمة هؤلاء وأولئك أمام طغيان الحجاج برهان على أنهم على باطل، والحجاج على حق؟

إننا نذكر هنا ما قاله بعض المسلمين وقد انكشفوا أمام خصومهم في معركة: والله لو نهشتنا السباع، أو تخطفنا الطير، ما شككنا أنكم على الباطل، وأننا على الحق!



وقال عبد الله بن الزبير وهو محصور مع قلة من أنصاره في مكة: والله ما ذل ذو حق، ولو تمالأ عليه من بأقطارها: ووالله ما عز ذو باطل ولو طلع من جبينه القمر!

وقد أشار القرآن الكريم إلى أن عدداً من الأنبياء قتلهم خصومهم، كما قال تعالى في خطاب بني إسرائيل ((أفكُلّما جاءكم رسولٌ بِما لا تهْوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبْتم وفريقاً تقتلون )) [البقرة:87 ] ومن هؤلاء نبي الله زكريا، وابنه السيد الحصور يحيى عليهما السلام.



فهل كان قتل هؤلاء النبيين، وتمكن أعدائهم منهم، دليلاً على أنهم لم يكونوا على حق فيما دعوا إليه؟

وفي القرآن أيضاً نقرأ قصة أصحاب الأخدود، الذين حفروا الأخاديد وأججوا فيها النيران، وألقوا بجماعة المؤمنين في قلبها، وهو قعود حولها، يتلذذون بالنظر إلى ألسنة النار، وهي تأكل هؤلاء المؤمنين الصادقين ((وما نقموا مِنهم إلاّ أن يؤمِنوا بالله العزيز الحميد )) [البروج:8 ].



فهل كان هؤلاء الطغاة على حق، لأنهم تمكنوا من أولئك الضعفاء من المؤمنين وأبادوا خضراء هم ولم يبقوا لهم من باقية؟

وهل كان أولئك المؤمنين على باطل، لأن نهايتهم كانت الإبادة والفناء في هذه الدنيا؟!

الواقع أن منطلق الشيخ غير مقبول بحال، ولا أدري كيف غفل الشيخ عن سنن الله تعالى في ابتلاء المؤمنين، واستدراج الطاغين، فقد قال تعالى في الأولين:



((أحسب النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذِبين )) [العنكبوت:1-3 ] وقال بعد غزوة أحد التي انكسر فيها المسلمون: ((إن يمْسسكم قرحٌ فقد مسَّ القوم قرحٌ مِثلُه، وتِلْك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء... )) [آل عمران:140-141 ] وقال في الآخرين: ((سنستدْرِجهم مِنْ حيثُ لا يعلمون وأملي لهم إنّ كيدي متين ُ)) [القلم:44 ].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الصحوة الأسلامية بين الجحود والتطرف (لشيخ الأسلام يوسف القرضاوي)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الاخضر وصل***يوسف القرضاوي،
» القدس قضية كل مسلم (لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي)
»  خطبة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في ميدان التحرير
» اللهم العن القتالين المجرمون الذين يقتلون الأنفس بأسم الأسلام واجعلهم في الدرك الأسفل من النار !!
» صحيفة "الصحوة" تكشف: تكتل المشترك صناعة أمريكية.. البطولة لليدومي وجارا لله عمر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المنتدى العربــي منتديــات كل الـعـرب  :: واحة السياسي الحر-
انتقل الى: