في فلسطين وحدها لا يمضي الزمن هباءً، ولا تشيخ أعمار زيتونها بتقادم السنين، ولا تتراجع خطوات عادياتها حين تعلن النفير، ولا تشقق أشواك الطريق أقدامها..
في فلسطين.. وفي العرف الحماسي المقاوم يتزاحم الألق في فصول الحكاية كلما مرّ من عمرها عام جديد، تتضاعف أعداد المتشبثين بالنهج الرباني المبارك كلما فتح رجاله كوّ ة أخرى في جدار الظلام..
في العيد الحماسي الثاني والعشرين يقف من تبقى من غارسي أولى البذار وعيونهم ترمق إرهاصات الانطلاق الأولى، يوم كانت الفكرة حلماً ثم تبرعمت بداية واثقة وبهية الحضور، وظلت الرياح تشتد من حولها كلما قطعت شوطاً للأمام، وظل قوامها فتياً ماضي العزيمة..
اثنان وعشرون عاماً هي لا شيء في عمر الثورات والمفاصل التاريخية، لكن سنيّ الحماس هذه أضافت لعمر فلسطين الكثير، فكبرت فلسطين بحماس واشتد بها عودها، وأسلمت لها قيادها وصارت معها ساعة الفجر على مرمى تكبيرة..
منذ أشرقت شمس حماس على فلسطين سكنتها بركة الجهاد, وتعطرت أجواؤها بمسك الشهادة ونفحات الرباط.. انزاحت من فضائها غيوم الخواء وسحب الجدب، وسكنت أنفاس المتخاذلين أمام طوفان البطولات، ومنذ أطلق أحفاد القسام رصاصتهم الأولى استقام المسار ووضحت معالمه، وعمرت المساجد بصانعي الملاحم، وصار الدم ورداً يومياً لا ينطفئ أواره.
في عصر حماس شهدت فلسطين أولى ثمار الرصاص ، فانجلى عن غزة ظلام الاحتلال، وخلصت أرضها للذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأكرمهم بالظفر، وجعل تلك البقعة المباركة حصناً للجهاد ومدرسة للصمود، يأتيها المريدون من كل حدب وصوب ليتبركوا من زيت قناديلها, وضياء الشهادة في ربوعها...
في عصر حماس استغنت فلسطين بزنود ثوارها عن سلاح العشيرة وعتادها، فصقلت سيفها وسنت رماحها، ودخلت صواريخها التاريخ من أبهى أبوابه، وصار (القسام) أجود من ضروب الصواريخ المكدسة في مدافن الصدأ، تشكو الوهن وقلة الحيلة..
في عصر حماس قهرت إرادة الجهاد سطوة المستحيل، وأضافت إلى قاموس بطولاتها مفردات الاستشهاد وعمليات الأنفاق وزلزلة الحصون وأبجديات افتداء الأسرى والبر بقسم تحريرهم.
في عصر حماس ارتفعت أسهم العقيدة فصارت أصل الصراع وفصله، وزاد الصمود في أيام النفير وعنوان اللجوء حين تبلغ القلوب الحناجر وتتقاذف العاصفات النفوس الكبار ويتباطأ أمد المحنة في الرحيل..
وفي هذا العصر الموشى بالعزة والسمو والتعالي على منطق الخنوع ستكمل القوافل سيرها حتى المسرى، وتحت رايتها سيتبدل الحال وينجلي عهد العتمة عن البقع التي استوطنها الليل وحطت في رحالها العمالة وغرس المأجورون حرابهم في جيدها وأجهضوا جنين فدائها.
فحماس زحف موصول مده بالغاية الكبرى، وسيل من العزائم لا ينقطع، ونافذة إصباح لا تدانيها العتمة، وما كان انبعاث ماردها في زمن الرقاد واستوائه يافعاً على سوقه إلا إيذاناً بتغير مسار الانتكاس والتحول لنسق الصعود وسنة الارتقاء..
لحماس في عيدها تخشع القلوب إجلالاً إذ تقرأ كتابها المفتوح, وتمر على نوافير الدم والبطولة والمحنة في كل فصوله، ويهمي غيث كانون لينعش أرضها ويطرد اليباس، ويغسل الذاكرة من أدران التعب, ويبعث فيها صور من ارتحل من قادة الركب وصناع الكرامة..
كل عام وحماس إلى نصرها أقرب، وحمى الله مجاهديها وساستها، ومكّن لها في أرضها كما مكنت فيها دعائم الجهاد والثورة، وأغاثها فرجاً بعد القهر والضيق، وانعتاقاً بعد الحصار والترهيب، وسدّد رميها وربط على قلوب جندها، وأنار بصيرتهم، وأبقاهم عناوين الفخار ونجوم المرحلة وجياد فجرها الآتي بحول الله.. (ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز).